تابع/ حق استخدام القوه ودوره في العلاقات الدولية
هذا التوجه المتمثل في عدم الاكتراث بالمؤسسات والأعراف الدولية والتركيز على البعد الأحادي في السياسة الخارجية في عهد بوش الإبن، كان سببا في توترات في العلاقات الأمريكية الأوروبية ففيما نرى أن الولايات المتحدة قوية وتركز في الوقت نفسه على مجموعة متميزة من التهديدات الأمنية، مما جعلها تسعى في السنوات الأخيرة إلى زيادة حريتها في العمل إلى الحد الأقصى وتقليل القيود على تصرفها، من أجل احتواء هذه التهديدات ودحرها، وحدها عند الضرورة.
ونرى أنها تميل إلى الانعزال والتصرف الأحادي الجانب، ذلك أن ذوي النزعة الأحادية الجانب يحتلون الآن مناصب مرموقة في الإدارة. وخاصة في كونغرس، وهم يركزون على تعزيز القوة الأمريكية والحفاظ على السيادة الأمريكية. فهم يفضلون الاعتماد على الذات، ويرفضون النزوع إلى العمل الجماعي، والمعاهدات الدولية باعتبارها قيودا غير ملائمة على قدرة أمريكا على تنفيذ إرادتها، فهم يفضلون القوة الصلبة والجبروت العسكري والعضلات الاقتصادية والزعامة الدبلوماسية على القوة اللينة[49] للمعاهدات والأعراف الدولية، ومنابر التفاوض.
وعند الكثير منهم لا يمكن أن ترفع نفقات الدفاع الأمريكية على نحو كاف أبدا. كما أن المساعدة والدعم الخارجيين اللذين تقدمهما الولايات المتحدة للمنظمات الدولية لا يمكن إنقاصها بما فيه الكفاية على الإطلاق.
أما المشاورات فهي من أجل التحدث، وليس الاستماع، والمساواة تنطوي على أخذ لأعلى عطاء، إنها السياسة الخارجية الواقعية العنيدة القائمة على فكرة قديمة وهي الفكرة القائلة إن القوي يفعل ما يشاء، أما الضعيف فيفعل ما هو مضطر إليه، وليست هذه الطريقة الأوروبية في القرن الحادي والعشرين على الأقل، فالأوروبيون يتبعون تقاليد الاندماج الأوروبي المتعدد الأطراف، ومرغمون بسبب نقص القوة على التحرك على أساس التعاون، هكذا يرون أن السياسة الخارجية ينبغي أن تهدف وبشكل رئيسي إلى بناء أنظمة دولية. وصياغة تعاون موسع، ويتبع جراء من الإيمان بالحلول التعددية عند الأوروبيين من الاعتقاد بأن كثيرا من التحديات العالمية من الاحتباس الحراري، والهجرة إلى موقف انتشار الأسلحة والتدخل في الدول ومصالحها ليست قابلة لحلول أحادية الجانب حتى لو اضطلع بها بلد مثل الولايات المتحدة. ورغم أن التركيز على الأحادية الأمريكية لم يبدأ بشكل كبير إلا منذ مجيء جورج بوش، فإن الفوارق بشأن كيفية معالجة القضايا الكبرى بين الولايات المتحدة وبقية العالم لم تكن ظاهرة حديثة. فإدارة كلينتون بعد فترة رئاسته الأولى كثيرا ما كانت تهتم بإتباع طريق أحادي الجانب، وقائمة الشكاوى طويلة رفض أمريكا التوقيع على حظر الألغام الأرضية، ورفضها أن تكون طرفا في محكمة الجرائم الدولية.[50]
لقد طرح بعض المحللين سؤالا يفرض نفسه وهو لماذا تغشى الولايات المتحدة أن يطول قضاء المحكمة رعاياها ؟ ولماذا التخوف على أفراد جيشها من الذين قاموا بمهمات التدخل العسكري في أقطار أجنبية إذا لم يكن لهم ما يؤاخذون عليه ؟ لاشك أن خوف الولايات المتحدة من المحكمة ما يبرره لذلك فإن معارضة الولايات المتحدة لهذه المحكمة لازالت مستشرية وقوية حيث ظهر من تدخلاتها المتعاقبة رفض مبدأ خلق المحكمة وعدم قبول الاحتكام إلى العدالة الدولية.
ورفضها تسديد ديونها بالكامل للأمم المتحدة ورفض مجلس الشيوخ الأمريكي لمعاهدة منع التجارب النووية، وطريقة إدارتها الدبلوماسية والعسكرية لأزمة كوسوفو وحربها.[51]
ثم رفضها إيجاد حل وسط بشأن تطبيق بروتوكول كيوتو حول التغيير العالمي في المناخ، ومتابعتها لنشر دفاعات ضرورية صاروخية محظورة بموجب معاهدة عام 1972 التي تحظر القدائف الصاروخية ذاتية الدفع.
وقد اكتسب هذه القضايا أهمية بارزة في عهد كلينتون ومعظمها باق كمصدر للنزاع اليوم، ومع ذلك فإن رد الفعل الأوروبي إلى الأحادية الأمريكية كان خافت الصوت، طيلة سنوات حكم كلينتون أكثر مما هو عليه اليوم في الأشهر التي تلت مجيء بوش للسلطة.
ويعود جزء من سبب هذا التغير في اللهجة إلى أن الرئيس كلينتون كان كثيرا ما يعطى لنفسه مظهر شخص مرغم على اتخاذ مواقف أحادية ضد رغبته الذاتية الصريحة، فقد كان كرئيس يتحدث بلغة التعددية، حتى ولو لم يغشى مشية التعددية.[52]
وعلى العكس من ذلك فقد أعطت إدارة بوش كل إشارة إلى أنها صالحة تماما في كثير من هذه السياسات الأحادية الجانب. فالرئيس الأمريكي ومستشاروه يعتبرون وبشكل صريح، أن الاتفاقيات الدولية أداة متجاوزة لهذا قررت الإدارة الأمريكية مراجعة اتفاقاتها الدولية. مما يعكس حالة من العداء الإيديولوجي من طرف الأمريكيين للقانون الدولي، وهو شعور بدأ يتنامى منذ مدة بين ما يعرف باليمين المتطرف وأصبح عاما في الحزب الجمهوري، تحت إدارة بوش.
ويرجع هذا إلى قناعة راسخة، بأن المعاهدات الدولية والقانون الدولي يشكلان خطرا على الولايات المتحدة الأمريكية لأنهما يحدان من حريتهما وسيادتهما.[53]
هذا التوجه الأحادي النزوع، كان سببا في الكثير من الاحتجاجات الصارمة، والتي لم تقتصر على قرار بوش بإعلان وفاة الاتفاق المتعددة الأطراف حول التغير المناخي الذي وقعه أكثر من مائة بلد، ومن ضمنها الولايات المتحدة برئاسة كلينتون بل شملت التعليل الذي برر هذا القرار أيضا، فمعارضة بوش لكيوتو لم تقم أساس التدرع بأن الاتفاقية غير فعالة. أو حتى على أساس أن المشكلة التي تسعى الاتفاقية لمعالجتها قد بولغ فيها. ولكن على عدم الاستعداد لدفع شحن معالجة مشكلة عالمية تتحمل الولايات المتحدة عنها مسؤولية غير متناسبة.
وأوضح بوش أنه نظرا لكون الولايات المتحدة تواجه أزمة طاقة، ولأن اقتصادها قد تباطأ فإن تقليص انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون ليست واردا في جدول الأعمال، وهكذا فإن ما أزعج أوروبا وبقية العالم هو تدرع بوش بحجة أمريكا أولا وعدم اهتمامه الظاهر بالكيفية التي تؤثر بها أعمال أمريكا على الآخرين.
وبالمثل فيما يخص الدفاع الصاروخي، لم يكن الموضوع هو رغبة إدارة بوش في الدفاع ضد تهديدات جديدة في عالم ما بعد الحرب الباردة، بقدر ما هو عزم أمريكا الواضح على متابعة هذا الطريق مع العلم الكامل بأن ذلك ينطوي على خرق معاهدة حظر القذائف ذاتية الدفع أو الانسحاب منها وهي تحظر تطوير وتجربة، ونشر هذه الدفاعات نفسها التي تسعى الإدارة لنشرها.[54]
هذا البعد الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية في عهد بوش الابن قاد بعض الدارسين إلى الاهتمام بالنزعة الإمبريالية للإدارة، وقد جاء أشمل توصيف لهذه النزعة فيما أورده إيكنبيري في تقييمه للسياسة الخارجية لإدارة بوش، فهو يرى أن لأمريكا طموحات إمبراطورية، فقد تخلت الإدارة عن مرتكزات السياسة الخارجية في إطارها العام. التي تقوم على الواقعية والتوجه الليبرالي ويعتقد أن إدارة بوش رسمت إستراتيجية جديدة تقوم على ستة مقومات وهي باختصار :
1- المحافظة على نظام القطب الواحد.
2- تحليل جديد للأخطار العالمية.
3- زوال إستراتيجية الردع، وظهور إستراتيجية الهجوم الوقائي.
4- إعادة تعريف مفهوم السيادة، بملاحقة الإرهابيين.
5- التقليل من أهمية القواعد والمعاهدات الدولية.[55]
الفقرة الثانية : التعسف في استعمال حق القوة
1- التغير القسري للأنظمة وخرق سيادة الدول :
يعتبر مبدأ الوطنية مبدأ قديما، قدم فكرة الدولة ذاتها أما السيادة فهي وضع قانوني ينسب للدولة عند توافرها على مقومات مادية من مجموع أفراد وإقليم وهيئة منظمة وحاكمة.
وتمثل السيادة في لغة القانون الدولي، ما للدولة من سلطان على الإقليم الذي تختص به بما يوجد فيه من أشخاص وأموال.
ومن مقتضيات هذا السلطان : أن يكون مرجع تصرفات الدولة في مختلف شؤونها إرادتها وحدها.
إلا أنه مع وجود القانون الدولي وكون الدول تربطها مصالح مشتركة مع بعضها، فإن ذلك فرض عليها نوعا من التعاون، بحيث ليس لدولة في سبيل تحقيق مطالبها الخاصة أن لا تكترث بمصالح الدول الأخرى بل يجب أن تكون ممارستها في حدود القانون الدولي وحدود تعهداتها والتزاماتها الدولية، لأن هذا لا يعني الانتقاص من سيادتها وفي هذا الإطار يتجه تطور الحياة الجماعية في المحيط الدولي، نحو التخفيف من حدة فكرة السيادة شيئا فشيئا، حتى يسهل التعاون اللازم بين الدول لنهوضها بالمهام الإنسانية الملقاة على عاتقها وفي مقدمتها صياغة السلم والأمن العام.
لقد كان مفهوم السيادة مبالغا فيه فمكيافلي مثلا جعلها في دورة القداسة إضافة إلى أراء أخرى في هذا المجال، كثيرة ومتعددة، كلها تقدس الدولة وتبرز ما لسياستها من أهمية وأولوية.
وعند نشأة عصبة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى، خطى العالم خطوة واسعة نحو تعاون الدول والحد من القداسة المفرطة لسيادتها بما قررته العصبة عن قيود التزمت بها الدول التي دخلت كأعضاء فيها كذلك فرض ميثاق الأمم المتحدة عدد من القيود المماثلة تهدد الدول الأعضاء في الهيئة بمراعاتها في تصرفها، وكلها قيود ليست فيها انتقاص من سيادة الدول الأعضاء أولا لأنها عامة، ثانيا لأن هذه الدول قبلتها عن طواعية واختيار.[56]
لكن السيادة في هذا العهد الجديد اهتزت إلى حد القول بأن فكرة السيادة في طريقها إلى النزول تحت تأثير المتغيرات الجديدة لتصل محلها فكرة المصلحة العامة، والدعوى إلى وجوب إخضاع مصلحة الدولة الخاصة للمصلحة العامة للمجتمع الدولي.
وهو ما حدا بالبعض إلى القول بأن دولة التنظيم المعاصر بالمفهوم الجديد للسيادة، قد باتت عضوا في المجتمع الدولي تتحرك ضمن حدود القانون وتلتزم بأوامره وتتعرض مثلما يتعرض الأفراد للزجر والتنبيه والعقوبات الأخرى عند الإخلال بالالتزامات الدولية.
بيد أن أحد لم يتصور قط أن يأتي يوم يصدر فيه هذا الزجر والتنبيه عن دولة من الدول، يفترض نظريا أنها متساوية قانونا مع الدولة التي قد يوجه إليها هذا الزجر والتنبيه أو العقاب.
وهذا تماما هو ما أقدمت وتقدم عليه الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، ضاربة عرض الحائط بمبدأ السيادة الوطنية، وبالمساواة في السيادة بين الدول وعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول ولاشك أن انتهاء الحرب الباردة نتيجة لانهيار الاتحاد السوفيتي السابق وبوادر الخلاف المتعاقد بين الولايات الأمريكية وأوربا. قد أدى إلى محاولات أمريكية متواترة لتجاوز مبدأ السيادة في عدد لا يخص من الحالات واقترن ذلك بمحاولات تقنين هذا التجاوز.
ويمكن لنا في هذا السياق رصد الجهود الأمريكية لتعزيز مبدأ التدخل الإنساني واتخاذ حقوق الإنسان كذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى باعتبارهما محورين رئيسيين للعمل على تقويض ما تبقى من مبدأ السيادة الوطنية، وذلك على الأقل بالنسبة لشريحة لا يستهان بها من دول العالم الثالث، ويحدث هذا التدخل والتجاوز إما من خلال قرارات تصدرها الولايات الأمريكية المتحدة عن طريق مجلس الأمن، أو عن طريق الفصل المباشر من جانب الولايات المتحدة بل والتهديد العلني والمباشر لهذه الدول والمواقف الأمريكية الأخيرة من سوريا وإيران وكوريا الشمالية في غنى عن أي تعليق.[57]
وعندما يقف الرئيس الأمريكي بوش، ويطلب من رؤساء بعض الدول أو الحكومات ترك مناصبهم، أو عندما يدعو المسؤولون الأمريكيون إلى الأخذ بالنظم الديمقراطية في بعض الدول، هنا وهناك دون حل ودون أن ترتفع صيحات الإدانة قوية بالاعتراض على هذا التدخل السافر في أخص الشؤون الداخلية، فإن علينا أن نتساءل عما بقي حقا من مبدأ السيادة الوطنية في ظل الهيمنة الأمريكية.[58]
إن الأمر يبدو على أكبر درجات الخطورة، عندما يتعلق بإرساء السوابق الدولية التي يمكن تكرارها في العمل الدولي، بما قد يمهد السبيل لإرساء قواعد عرفية جديدة قد تنسخ القواعد القانونية المستقرة.
إن المجتمع الدولي الذي اعتاد أن ينصت اليوم لخطاب التهديد والوعيد الأمريكي الموجه إلى دول يعينها إذ لم تتمثل لأمور معينة، قد يعتاد مثل هذا الخطاب وقد ينظر إليه بعد بين طال أم قصر. على أنه أمر طبيعي معتاد ولا يجد عصاصة في تقبله كقاعدة من قواعد القانون.
وهنا تكمن الخطورة ويكمن التركيز الأمريكي على هذه الثغرة التي يحاول من خلالها أن يفترق ما بقي من السيادة الوطنية على اعتبار أن السيطرة الأمريكية على مقدرات العالم الراهن وإمساكها بزمام الأمور يفترض بالضرورة إضعاف مبدأ السيادة الوطنية إلى أبعد مدى بحيث لا يكون هذا المبدأ أمام انسياب قانون أمريكي جديد، يختلف في أسسه ومخالفته للقانون الذي وضعه المجتمع الدولي والعمل بموجبه والانصياع لأحكامه.
هذا القانون لا يتوقف طويلا أمام مبادئ السيادة الوطنية لا يلقى بالا للمساواة بين الدول، أو لوجوب الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية، ولكنه يكثر الحديث عن حقوق الإنسان وعن الدول التي لا تلتزم بتطبيق أحكام ومعايير حقوق الإنسان حسب التعريف الأمريكي ووجوب إنزال العقاب بها.[59]
2- الحرب على العراق كجريمة دولية وتكريس فعلي لواقع القوة في العلاقات الدولية :
لقد أطلقت عملية العدوان الأمريكي على العراق رصاصة الرحمة على منظومة الأمم المتحدة والتي بدأت احتضارها منذ عاصفة الصحراء، والتي ترجحت ميزان قوى دولية جديدة أفرزته نهاية الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي المندثر وأيلولة النظام الدولي إلى قطب واحد ووحيد هو الولايات المتحدة الأمريكية.
ولقد بدأت الأمم المتحدة تتلمس هذه الحقيقة في مطلع التسعينات من القرن الماضي وابتدأت تتلاءم مع الكثير من القضايا التي عرضت على مجلس الأمن.
لكن الولايات المتحدة سرعان ما انتقلت من طور استدراج الأمم المتحدة للبصم على قراراتها إلى طور تجاوز الأمم المتحدة ذاتها في تلك الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية تحت مظلة الأطلسي بعيدا عن أي إجازة قانونية دولية من الأمم المتحدة بالإضافة إلى حرب تدمير العراق الذي تعيش فيه اليوم.[60]
حيث عكست هذه الحرب أكثر من غيرها التطبيق الفعلي لعدم الاهتمام بالأمم المتحدة، عندما شنتها الولايات المتحدة على الرغم من فشلها في الحصول على قرار مجلس الأمن بهذا الصدد، مستهدفة بذلك الشرعية الدولية وإرادة المجتمع الدولي، مما وضع الأمم المتحدة أمام تحد خطير يمس اختصاصاتها ودورها بل ويرهن مصيرها ومستقبلها.[61]
3- تهميش مجلس الأمن في الحرب على العراق :
تعيش الأمم المتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة كما سبقت الإشارة تهديدا عاصفا بما يشبه انقلابا عميقا في المركز والدور ومجال التدخل، ومن المؤكد أن جوهر هذه الأزمة التي تعاني منها الأمم المتحدة ومن خلالها القانون الدولي والشرعية الحربية يكمن بالأساس في طبيعة العلاقات التي شرعت الولايات المتحدة في تشكيلها غداة انفرادها بقيادة العالم دون منافس، أو رادع مما يؤشر لبداية تاريخ جديد للإنسانية إحدى مقوماته سيادة قانون الأقوى واستبعاد القانون الدولي التقليدي، وفرض الهيمنة المطلقة على الأسرة الدولية، كالولايات المتحدة الأمريكية بعد أن بزغت كدولة ذات نزعة إمبراطورية تتجه نحو تحويل مجلس الأمن الأداة التنفيذية للأمم المتحدة إلى هيئة أشبه بحكومة ديكتاتورية غير مسؤولة وغير شرعية أيضا معرضة لإصدار قرارات غير دستورية دون أن يكون في مقدور أي جهاز آخر أن يحرك أي نوع من أنواع الرقابة السياسية أو القضائية اتجاهه واتجاه الأعمال التي تمارس، سواء تحت عطائه أو بدونه والتي يكون سببها الرئيسي مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى إلى رسم سياسة تهدف في آخر المطاف إلى تهميش وإضعاف دور الأمم المتحدة، إن هي لم تساير توجهاتها التوسعية الإمبراطورية.
وقد تجلت معالم هذه السياسة في الحرب الأخيرة المعلنة على العراق بعد أن شنتها دون موافقة مجلس الأمن وفرضت احتلالا غير مبرر على دولة ذات سيادة وعضو بهيئة الأمم المتحدة، مما جعل دور مجلس الأمن يبدو باهتا ومتحاورا لم يتعد وظيفة تزكية وتوجهات القوى الكبرى كما كان عليه الحال إبان مرحلة الثنائية القطبية التي عان فيها المجلس، وهي مرحلة من الشلل في حركته وقدرته على التدخل بفاعلية لحل الأزمات الدولية، وهي مرحلة رأي بعض الباحثين أن انتهائها سيؤدي إلى تفعيل دور المجلس على عكس ما هو عليه اليوم خاصة أن غياب الفيتو السوفييتي سوف يعطى مجلس الأمن القدرة على التدخل في النزاعات الدولية، واتخاذ القرارات فاعلة بشأنها، وأنه سيكون قادرا على تنفيذ هذه القرارات، مدللا على ذلك بدوره في حرب الخليج الثانية.
لكن خبرة التسعينات أثبتت انحسار هذه الآمال فبعد أن كان المجلس خاضعا محكوما بالفيتو السوفييتي والأمريكي، فإنه خضع للقوة الأمريكية المنفردة، وغلبت عليه سمة الازدواجية بحيث أنه كان فاعلا فقط في النزاعات التي لا تتعارض مع المصالح الأمريكية.
أما في العديد من النزاعات التي تتعارض مع المصالح الأمريكية، فلم يتم بالدور الفاعل اتجاهها. وخاصة اتجاه النزاع العربي الإسرائيلي، حيث استخدمت أمريكا حق الفيتو اتجاه العديد من القرارات التي تدين العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين أو الشوكة التي قصدت ظهر البعير. فقد كان العدوان الأخير على العراق والذي كرس النظام الدولي أحادي القطبية، وأكد بأن لا معارضة دولية حقيقية تشكل تحديا للقوة الأمريكية، فالمعارضة الدولية التي تجسدت في موقف بعض الدول الكبرى فرنسا روسيا ألمانيا لم تتجاوز كونها معارضة سياسية ارتبطت بمصالح هذه الدول، ومدى تأثير هذه الحرب.
ما من شأنه أن يزيد من فعالية مجلس الأمن لأنه سوف يكون قادرا على التدخل في النزاعات الدولية واتخاذ القرارات بشأنها، وقادرا على تنفيذها.
لكن هذه الفعالية تتسم بغياب العدالة في كثير من النزاعات التي تكون الولايات المتحدة طرفا فيها أو ترتبط معها بمصالح.[62]
نخلص من كل ذلك إلى أن الأزمات الخطيرة التي مرت بها الأمم المتحدة تكاد كل مرة أن تعصف بمصداقيتها، وبدورها في حفظ التماسك الدولي والسلام العالمي تعرض التفكير من قبل متخذي القرار الدولي في إعادة النظر في هذه الهيئة وجهازها التنفيذي مجلس الأمن.
فطبيعة تشكيل المجلس حسب البعض تعكس الصبغة التي اصطبغت بها العلاقات الدولية غداة الحرب العالمية الثانية، والتي قسمت العالم إلى دول منتصرة وأخرى منهزمة، فترجم شكل هيئة دائرة الأقوياء بالمجلس، هذه الحقيقة التي تعززت بانشطار الدول إلى معسكرين معسكر اشتراكي ومعسكر رأسمالي.
لكن ومع تغيير الظروف الدولية بات إصلاح مجلس الأمن ليقوم بدوره في حفظ الأمن الجماعي مطلبا ملحا، وذلك من خلال مراجعة حق النقض الذي تنفرد به الدول الدائمة العضوية والذي يعد عقبة حقيقية أمام عمل المجلس وفتح المجال لدول أخرى كاليابان وألمانيا لتعطى بدور أكبر في المنظومة الدولية وبعض دول العالم النامي التي حققت نموا مهما في العقود الأخيرة.
ومن جهة أخرى، وعلى مستوى السلطة القرارية لمجلس الأمن تقتضي تحولات المشهد السياسي الدولي وإعطاء فعالية أكبر لقرارات المجلس بإسباغ الديمقراطية عليها وإيجاد آليات لتفعيلها بدل تركها رهينة مصالح الدول الكبرى التي تكيل بمكاييل متعددة إزاء القرارات الأممية حسب التوجهات الإيديولوجية والمصالح المتضاربة في عالم أصبحت فيه القوة العنصر المتحكم في العلاقات الدولية.
إن مثل هذه الحلول من شأن تطبيقها أن يساهم في عودة الأمن العالمي إلى نصابه لكنها فيما يبدو حلولا أقرب إلى الخيال منها للواقع. فالدول الخمس الكبار ستتخلى عن امتيازاتها التي يحققها الفيتو بسهولة ولا القطب الأكبر الولايات المتحدة سيقبل بإسباغ الديمقراطية على قرارات مجلس الأمن خاصة وأنه محكوم الآن أكثر من أي وقت مضى بمنطلقات المصلحة الخاصة والأنانية وفكرة التوسع الإمبراطوري.
فالقاعدة الثابتة في عمل الأمم المتحدة هي "إذا أردت استطعت" بمعنى أن الإرادة تسبق القدر.[63]
أي أن إصلاح الأمم المتحدة بخاصة محكوم بتوجه إرادة الطرف الأقوى نحو هذا الإصلاح لكن المؤكد أن هذه الإرادة لا توجد إلى حد الآن.
4- الاستخدام المفرط للقوة العسكرية وانتهاكات حقوق الإنسان :
لقد عرفت الحرب على العراق مظهر من مظاهر الاستخدام المفرط للقوة العسكرية وعدم مراعاتها للأوضاع الأمنية والإنسانية للشعب العراقي. فقد أرادت القوات الأمريكية في هذه الحرب إثبات نظرية الصدمة والرعب التي هيمنت على تفكير سلاح الجو الأمريكي منذ عقود، تقوم هذه النظرية على توجيه ضربات قوية للخصم منذ البداية بهدف القضاء على أنظمة القيادة والسيطرة لديه، وتدمير الدفاعات الجوية وإيقاع أكبر قدر من الخسائر لشل حركته والقضاء عليه من الضربة الأولى وبالفعل قامت القوات الأمريكية في اليوم الأول للحرب بإسقاط أكثر من 1300 قنبلة وقديفة صاروخية على بغداد ومدن عراقية أخرى، اشتملت الضربات أيضا 320 صاروخ من طراز توماهوك،[64]
وبالرغم من صعوبة تواجد المنظمات المهتمة بحقوق الإنسان بسبب الأوضاع الأمنية السيئة أثناء وبعد الحرب على العراق إلا أنه كانت هناك بعض الزيارات التي قامت بها هذه المنظمات، حيث عبر تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية في 18 أبريل 2003 عن قلق المنظمة العميق إزاء تزايد عدد الإصابات في صفوف المدنيين في العراق نتيجة استخدام القوات الأمريكية للقنابل العنقودية في المناطق ذات الكثافة السكانية.[65]
هذا ما أكدته منظمة هيومن رايتش روتش التي قالت في تقرير لها إن القيادة الوسطى للجيش الأمريكي استخدمت 10782 من القذائف العنقودية التي قد تحتوي على 1,8 مليون قنبلة على الأقل كما استخدمت القوات البريطانية 70 قذيفة عنقودية أطلقت من الجو و2100 أطلقت من الأرض وتحتوي على 113190 قنبلة، ورغم أن شن الهجمات بالذخائر العنقودية محفوف بأخطار بالغة من المناطق الآهلة بالسكان، فقد عمدت القوات البرية الأمريكية والبريطانية إلى استخدام هذه الأسلحة مرارا في هجمات على المواقع العراقية في الأحياء السكنية.
في تقرير آخر، عبرت منظمة العفو الدولية عن قلقها بشأن بيان صادر من بول بريمر رئيس الإدارة المؤقتة في العراق 27 يونيو 2003 قال فيه "بأن اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 من المعيار الوحيد دو العلة المعمول به في سياق ممارسات الاحتجاز من جانب قوات التحالف، وإن هذه الاتفاقية تتقدم على سواها من اتفاقيات حقوق الإنسان شددت المنظمة على أنه يجب الالتزام أيضا بأحكام معاهدات حقوق الإنسان الأخرى التي يعتبر العراق طرفا فيها، وليس حوادث تم خلالها إطلاق النار على متظاهرين، مدنيين عراقيين على أيدي جنود أمريكيين مما تسبب في مقتل عدد من هؤلاء المتظاهرين كما أشارت المنظمة إلى أنها تلقت عددا من التقارير حول وقوع حوادث تعذيب أو سوء معاملة للمعتقلين العراقيين على أيدي القوات الأمريكية مثل الحرمان من النوم ووضع القناع على الرأس والوجه لفترات طويلة وتعريض المعتقل لأضواء ساطعة بالإضافة إلى وقوع حالات وفاة في الحجز تنتج معظمها عن حوادث إطلاق نار على أيدي قوات التحالف أو بسبب سوء المعاملة.[66]
ومن بين مظاهر انتهاكات حقوق الإنسان في العراق أيضا الغطرسة والتعالي التي يتعامل بها الجندي الأمريكي مع المواطن العراقي، مثل وضع الجنود أرجلهم على رؤوس العراقيين، وتفتيش المجندين الذكور لمواطنات عراقيات ولمس أجسادهن بطريقة مهينة.
لم تقتصر هذه الانتهاكات على الشعب العراقي فحسب فقط بل شملت أيضا الصحفيين العاملين في العراق، حيث تعرضوا للأذى من قبل القوات الأمريكية بدءا بالتوقيف والتفتيش مرورا بالاعتقال وانتهاء بالقتل. وقد أحصت منظمة صحفيون بلا حدود أعداد من قتلوا من الصحفيين في العراق خلال عام 12 صحفيا.[67]
إن هذه الممارسات تزيد من موجهة العداء المتصاعدة أصلا ضد الولايات المتحدة الأمريكية، وتجعل الآخرين ينظرون إليها بأنها دولة متغطرسة لا تأبه بالأنظمة والقوانين الدولية، والسؤال المطروح لماذا تتصرف الولايات المتحدة على هذا النحو ؟
المطلب الثاني : الواقع الإقليمي لاستعمال حق القوة
التغيرات الإقليمية هي تصرف أو مجموعة من التصرفات أو الأفعال تتخذها دولة أو أكثر حيال دولة أو أكثر أو حيال شعب أو أكثر من شأنها انتهاك قاعدة دولية آمرة أو ملزمة تنظم مركزا قانونيا أو تنشئ حقا دوليا معترفا به.
وتتعدى صور التغيرات الإقليمية غير المشروعة فقد تأخذ شكل حرمان شعب من الشعوب من ممارسة حقوقه المشروعة المقررة له وفق مواثيق والإعلانات الدولية كحقه في تقرير المصير أو منعه من ممارسة حقه في أن يعيش في مجتمعه دون تمييز أو تفرقة بسبب عونه أو جنسيته أو معتقده، على أن أهم صورة من صور التغيرات الإقليمية غير المشروعة هي سعي دولة ما نحو تحقيق مكاسب إقليمية أو ترابية عن طريق احتلال أراضي الغير أو الاستيلاء عليها باستخدام القوة العسكرية.[68]
وبذلك أصبحت القوة العسكرية تستخدم بهدف الاستعمار الفقرة الأولى، ثم تستعمل بهدف التحرير الفقرة الثانية.
الفقرة الأولى : استعمال القوة بهدف الاستعمار
1- الاحتلال الحربي للعراق :
بدأت الحرب الأمريكية على العراق عارية من أي عطاء شرعي مقبول. خصوصا بعد سقوط المبررات التي ساقتها الولايات المتحدة الأمريكية والمتعلقة على وجه الخصوص بنزع أسلحة الدمار الشامل العراقية، الأمر الذي ضاعف من المعارضة الدولية للحرب وصار الحديث يتركز أكثر على الأهداف الحقيقية للحرب والقوى التي تقف وراء تأجج نارها، وعلى الرغم من اتسام هذه الحرب بعدم المشروعية، كونها تقررت ونفذت خارج سلطة الأمم المتحدة وتحديد مجلس الأمن، فقد سعت الولايات المتحدة الأمريكية منذ البداية لحشد الدعم العسكري الدولي، قصد إظهار الطابع الجماعي للفعل غير المفوض من مجلس الأمن، وقد نجحت الولايات المتحدة عقب احتلال العراق في الحصول على هذا الدعم من دول أوروبية وغير أوروبية ساهمت بقوات أرسلتها إلى العراق تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن كان المجهود الحربي قبل احتلال العراق ينحصر في قوات الولايات المتحدة تساعدها قوات من إنجلترا.
غير أنه وبالنظر لنجاح المقاومة العراقية التي أربكت المخططين العسكريين الأمريكيين، وحجم الخسائر التي لحقت بقوات الولايات المتحدة في العراق والمتطلبات والاحتياجات الأمنية والاقتصادية والسياسية التي يصعب النهوض بها من قبل دولة واحدة عادت الولايات المتحدة من جديد تطلب الدعم الدولي ولما كانت أغلب دول العالم قد ربطت مشاركتها في القوات الدولية العاملة في العراق بضرورة تفويض هذا العمل من مجلس الأمن، فقد اتجهت الجهود الأمريكية والدولية المشاركة في الحرب للضغط على الدول خصوصا منها الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن أو تلك الدول المؤثرة والتي أعلنت جهارا معارضتها للتدخل العسكري ضد العراق دون إذن مسبق من مجلس الأمن ألمانيا وذلك كله بقصد تحرير مشاريع قرارات تضفي المشروعية أو تعطي نوعان من الدعم العسكري أو المالي للمجهود الحربي الأمريكي في العراق.[69]
2- الذرائع المستخدمة لتبرير الحرب على العراق :
الحرب على العراق جاءت تتويجا للسياسة العدائية الأمريكية التي بدأها الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب وتابعها الرئيس كلينتون خلال فترة الرئاسة.
وقد بررت الولايات المتحدة حربها على العراق بأربع مبررات :
- المبرر الأول : هو منع العراق من امتلاك وتطوير أسلحة الدمار الشامل من نووية وكيمانية وجرثومية لما في ذلك من تهديد لأمن العالم ولأمن الولايات المتحدة الأمريكية سواء كان هذا التهديد بواسطة العراق لكي تستخدم ضد الولايات المتحدة أو ضد حلفائها.
- المبرر الثاني : هو الحيلولة دون أن يصبح العراق مركزا جديا إيواء المنظمات والعناصر الإرهابية، ولذلك حاولت الولايات المتحدة دون جدوى إثبات وجود علاقة بين العراق وتنظيم القاعدة.
- والمبرر الثالث : هو الإحاطة بالرئيس صدام حسين لأن الولايات المتحدة على حد تعبير بوش لا يمكنها أن تسمح لأسوأ القادة في العالم بابتزاز الولايات المتحدة وحلفائها وأصدقائها بأسلوب الأسلحة في العالم وباسم الدفاع عن الحرية أعطت لنفسها الحق في إحاطة حكومة الرئيس صدام حسين وتعويضها بحكومة ديمقراطية تلتزم بقرار الشرعية الدولية وتحسن معاملة شعبها وجيرانها.[70]
- والمبرر الأخير : يعنى أن مشاريع دمقرطة المجتمعات والدول الإسلامية تتعدى مرحلة الضغوط السياسية والدبلوماسية لتصل إلى مرحلة شن حروب التدخل ولذلك فإن مشاريع الدمقرطة العشرية وفقا للشروط الأمريكية والغربية هي مولد آخر من مولدات الانقسام الإيديولوجي الجديد في عالم ما بعد الحرب الباردة.
ولقد قسم الدكتور عبد الواحد الناصر الذرائع لتبرير الحرب على العراق إلى ذرائع قانونية وسياسية.
أولا : الذرائع القانونية لتبرير الحرب على العراق
الذرائع القانونية هي ثلاث ذرائع : اثنتان استخدمتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ إدارة بوش الأب إلى الابن، أولهما الادعاء بحالة الدفاع الشرعي في استخدام للقوة العسكرية ضد العراق منذ 1991 وإلى الآن. وثانيهما هو الادعاء العمل باسم المجتمع الدولي من أجل تنفيذ قرارات الشرعية الدولية وفي مقدمتها القرارات ومنها قرار 678 عام 1990 وقرار 687 عام 1991 و1441 وعام 2002 ولاسيما ما يتعلق بنزع الأسلحة العراقية "أسلحة الدمار الشامل".
أما الذريعة الثالثة فهي مرتبطة بمنطق الحرب على الإرهاب وتكمن في اعتبار الحرب على العراق جزءا في الحرب على الإرهاب والهدف من هذه الحرب هو منع النظام العراقي من تسريب أسلحة إلى الإرهابيين والحيلولة دون أن يصبح العراق كأفغانستان على عهد الطالبان. وهذا ما يفسر المحاولات المتكررة الأمريكية والبريطانية لإثبات وجود علاقة بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة.
ثانيا : الذرائع السياسية لتبرير الحرب على العراق
هذه الذرائع القانونية هي مجرد غطاء أو ستار لأنك حرب الخليج الثالثة لها ذرائع سياسية تتناقض مع الذرائع القانونية لهذه الحرب، هذه الذرائع السياسية لحرب الخليج الثالثة تشمل :
1- تحرير العراق من الحكم الديكتاتوري الدموي لصدام حسين.
2- دمقرطة العراق عن طريق إقامة حكومة ديمقراطية بديلة.
3- استخدام الموارد البترولية العراقية في إعادة إعمار العراق ورفاهية الشعب العراقي.
4- القضاء على التهديد العسكري الذي يمثله النظام العراقي بالنسبة لجيرانه وبالنسبة للأمن القومي الأمريكي الذي مجموع المصالح الحيوية الأمريكية في المنطقة بما في ذلك أمن إسرائيل بيد أن هذه الذرائع السياسية تكشف زيف الذرائع القانونية المدعى بها وتكشف من جهة أخرى عن الأسباب الحقيقية لحرب الخليج الثالثة.[71]
ثالثا : ضعف مصداقية مبررات الحرب على العراق
قد مر الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن تقريرا إلى مجلس الأمن في سبتمبر 2002 ذكر في التقرير سبع مبررات تستند عليها الإدارة الأمريكية لشن حربها على العراق وهي عدم احترام بغداد لستة عشر قرار صادر عن الأمم المتحدة وأن العراق يمتلك أسلحة الدمار الشامل وهو مسؤول عن انتهاكات لحقوق الإنسان من تعذيب واغتصاب وإعدامات فورية، وله ارتباط بالإرهاب ويحتجز لديه أسرى حرب من ضمنهم طيار أمريكي، وأنه لازال يحتفظ بثروات نهبها عند اجتياحه للكويت.
والولايات المتحدة استندت على ثلاث مبررات أساسية وذلك من أجل الوقوف على مصداقيتها وصحتها بعد انتهاء الحرب على العراق.
1- امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل :
من أكثر المبررات التي ركزت عليها الإدارة الأمريكية امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، هذا ما أكده بوولفووتيز نائب وزير الدفاع الأمريكي عندما قال "لقد تفاهمنا على نقطة واحدة هي أسلحة الدمار الشامل، ذلك لأنها تشكل الحجة الوحيدة التي يمكن أن يتوافق عليها الجميع".[72]
وبالفعل فقد طرح رئيس الولايات المتحدة وإعطاء إرادته هذه الحجة وفي أكثر من مناسبة، ففي اجتماع مع أعضاء الكونجرس في 26 سبتمبر 2002 قال الرئيس الأمريكي "إن الخطر على بلدنا فادح الخطر يتعاظم فنظام الحكم في العراق يملك أسلحة بيولوجية وكيميائية ويسعى إلى امتلاك قنبلة نووية وبما لديه من مواد انشطارية يستطيع أن يصنع واحدة في غضون عام واحد".
وفي خطابه عن حالة الاتحاد في 28 يناير 2003 قال أيضا : "فقد عملت الحكومة البريطانية أن صدام حسين سعى مؤخرا للحصول على كميات ضخمة من اليورانيوم وفي 5 فبراير قال وزير الخارجية الأمريكي كولن باول أمام مجلس الأمن الدولي بأن تقديرنا المحتفظ هو أن العراق يملك اليوم مخزونا بين 100 و500 طن من الأسلحة الكيميائية.[73]
بالرغم من كل هذه التأكيدات وبعد عام من نهاية الحرب الأمريكية على العراق لم تستطع الولايات المتحدة تأكيد هذه الحجة، كما عجز الفريق الأمريكي الذي كلف بمهمة التفتيش عن الأسلحة المحظورة بعد احتلال العراق من العثور على أي منها. بل الأكثر من ذلك قامت الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع حليفتها بريطانيا بتلفيق بعض الأدلة عندما قالت بأن العراق سعى إلى شراء خمسمائة طن من أوكسيد اليورانيوم من نيجر يستخدم في صناعة الأسلحة الذرية، وفي مارس 2003 أعلن المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البردعي أن الوثائق التي قدمت بهذا الخصوص تشتمل على تلفيقات لا أساس لها من الصحة.[74]
2- علاقة النظام العراقي بالإرهاب تنظيم القاعدة :
سعت الإدارة الأمريكية إلى الربط بين أحداث الحادي عشر من سبتمبر والحكومة العراقية، واتهمتها بدعم الإرهاب وعلاقتها بتنظيم القاعدة يؤكد على ذلك ما كان يدور في الاجتماعات التي عقدتها الإدارة الأمريكية بعد الأحداث وتصريحات كبار المسؤولين فيها في 15 سبتمبر 2001 دعي مجلس الأمن القومي الأمريكي إلى اجتماع قدمت فيه عدة مداخلات كان من ضمنها مداخلة لنائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني قال فيها "إنني أريد أن أركز أكثر على قضية الدول التي ترعى الإرهاب وأريد أن ألفت النظر إلى التركيز على دول لها كيان واضح أسهل من التركيز على جماعات ليس لها ملامح الدول التي ترعى الإرهاب متجسدة والجماعات الإرهابية مجرد أشباح وأظن أننا سوف ننجح أكثر في العمل ضد جسد ولا ننجح بالقدر الكافي ضد أشباح"، في نفس اليوم دعا الرئيس أركان إدارته إلى اجتماع غير رسمي خاطب فيه جوش الحضور قائلا : الشعب الأمريكي يريد عملا كبيرا مهولا فرقعة عظيمة لا أريد معركة واحدة، ولكن أريد حربا ممتدة يشعر بها الشعب الأمريكي، ويتأكد أننا نواصل الدفاع عنه حتى أقاصي الأرض ضمن الردود التي جاءت على كلام الرئيس قال بولار لفويتز نائب وزير الدفاع "إن ما يطلبه الرئيس يمكن أن يتحقق في حالة واحدة، هي حالة أن نوجه ضربتنا إلى الدول الراعية للإرهاب أو الدول الإرهابية والعراق أول القائمة بوجود صدام حسين على رأسه، في مقابلة جمعت بين كارل روفي كبير مستشاري الرئيس للشؤون الداخلية مع وزير الدفاع رامسفيلد للحديث معه عن سر الفتور الذي يسيطر على الحرب الأمريكية ضد أفغانستان لابد أن نوجه ضربتنا بعد الآن إلى الدول الراعية للإرهاب، الدول الإرهابية العراق أولها، صدام حسين ليس له صديق في العالم يدافع عنه حتى في روسيا وفي الصين وهو رجل يصعب على أحد أن يقول فيه كلمة طيبة في حقه.[75]
يتضح مما سبق أن هناك نية مبيتة لدى بعض أعضاء الإدارة الأمريكية على مهاجمة العراق من خلال ربطة الإرهاب، وكانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر فرصة مناسبة لتحقيق ذلك، لذا بدأ الحديث في العلن عن علاقة النظام العراقي بالإرهاب وبتنظيم القاعدة بالتحديد. جاء ذلك واضحا في الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأمريكي عن حالة الاتحاد 28 يناير 2003 عندما قال "تخيلوا مختطفي الطائرات التسعة عشر أولئك ومعهم أسلحة أخرى وخطط أخرى هذه المرة وقد سلحهم صدام حسين لن يحتاج الأمر إلا لتسلل قارورة واحدة، علبة معدنية واحدة قفص واحد إلى داخل هذا البلد ليجلب علينا يوم دعر لم نعرف مثيلا له"، وكان الرئيس الأمريكي قد أعلن قبل ذلك أمام مجلس الشيوخ "إننا نعرف أن العراق وشبكة القاعدة الإرهابية يتشاركان في عدو واحد الولايات المتحدة الأمريكية ونحن نعرف أن العراق والقاعدة تربطهما صلات على مستوى عال ترجع إلى عقد مضى".[76]
كما روجت الإدارة الأمريكية بأن محمد عطا الذي يعتقد بأنه الرأس المدبر لهجمات الحادي عشر من سبتمبر وقائد طائرة البوينغ التي ارتطمت بالبرج الشمالي من مركز التجارة العالمي اجتمع مع أحمد خليل العاني، القنصل السابق في السفارة العراقية في براغ في يونيو 2000، وقد طرد العاني بعد ذلك من الجمهورية التشيكية بتهمة التجسس، وبالتالي يمكن اعتبار ذلك دليلا على علاقة العراق بالقاعدة.[77]
إن من يقف وراء هذه الحجة قد نسى بأن النظام العراقي بقيادة صدام وتنظيم القاعدة بزعامة أسامة ابن لادن يمكن أن يتفقا على عدو مشترك ولكنهما من الصعب أن يتعاونا معا، حيث أن الحزب الحاكم في العراق حزب بعثي دو توجه علماني، مناهض لتنظيم القاعدة الذي يعترف بمعاداته للأنظمة العلمانية.[78]
كما أن حجة محمد عطا لم تصمد طويلا حيث أكد الرئيس فكلاف هافيل في تقرير سلمه إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش بأنه لم يحدث أي اتصال بين محمد عطا وبين عملاء المخابرات العراقية والأكثر من ذلك فمروره في براغ أمر مشكوك فيه كليا.[79]
لذا اضطرت الإدارة الأمريكية إلى التراجع عن هذه الحجة وقال الرئيس الأمريكي في سبتمبر 2003 بأن الولايات المتحدة ليست لديها براهين على مشاركة صدام في هجمات 11 سبتمبر.
3- انتهاك النظام العراقي لحقوق الإنسان :
الحجة الثالثة التي روجتها واشنطن لتبرير حربها على العراق هي انتهاك النظام العراقي لحقوق الإنسان وبأنه نظام دكتاتوري يمثل تهديدا لجيرانه وكارثة لشعبه.[80]
هذه الحجة تعتبر من الحجج التي يسهل طرحها ويصعب تحديدها أو الحكم عليها، ولنفترض بأن النظام العراقي السابق كان بالفعل نظاما دكتاتوريا وقام بانتهاكات لحقوق الإنسان هل يمكن اعتبار الحرب هي طوق النجاة لحقوق الإنسان ؟ أليس الحرب هي التهديد الأكبر لهذه الحقوق، وأن معظم جرائم إبادة الجنس البشري والتطهير العرقي في القرن العشرين قد جرت أثناء الحروب أو بعدها مباشرة وذلك بسبب الفوضى والخراب وتفجر الأحقاد والسرية المصاحبة للحرب.[81]
ثم ماذا عن الأنظمة الأخرى الحليفة لواشنطن لما قررت الولايات المتحدة معاقبة العراق بالتحديد على انتهاكاته لحقوق الإنسان بينما تدعم إسرائيل في الوقت الذي تنتهك فيه إسرائيل قرارات الأمم المتحدة وحقوق الإنسان الفلسطيني.[82]
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كيف تريد الولايات المتحدة من العالم أن يصدق أنها ذهبت للعراق لتحرير الشعب العراقي من حاكم مستبد حسبما تدعى، بينما تسارع في تطبيع علاقاتها مع ليبيا بمجرد أن وافق الرئيس الليبي معمر القذافي على فتح المنشآت العسكرية الليبية لفرق التفتيش الدولية ألم تكن الولايات المتحدة تصف النظام الليبي بأنه نظام مستبد ولا يحترم حقوق الإنسان ويدعم الإرهاب الدولي هل تغير كل شيء وأصبح الرئيس الليبي بمجرد استجابته للضغوط الأمريكية رجلا ديمقراطيا يحترم حقوق الإنسان وليس له علاقة بالإرهاب.
4- الحرب على العراق انتهاك للشرعية الدولية :
انتهينا إلى أن غزو العراق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا كان حرب عدوانية لتحقيق مصالح وأهداف إستراتيجية في منطقة الخليج، وسوف نبرز هنا تلك القواعد التي انتهكتها الدولتان الغازيتان أمريكا وبريطانيا عندما غزت قواتهما دولة عضو في الأمم المتحدة منتهكة سيادتها الإقليمية، فقد تمثلت هذه الانتهاكات للشرعية الدولية في الآتي[83] :
أولا : انتهكت الولايات المتحدة وبريطانيا الفقرتان الثالثة والرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة اللتان أوجبتا على جميع أعضاء الهيئة الدولية بفض منازعاتهم بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر، وأن يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن أن يهددوا بالقوة أو يستخدمونها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة أو على وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة.
ثانيا : انتهكت الولايات المتحدة وبريطانيا المادتان الأولى والثانية من ميثاق الأمم المتحدة اللتين تنصان على عدم استخدام القوة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
ثالثا : انتهكت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا المادة 24 وأحكام الفصلين السادس والسابع من ميثاق الأمم المتحدة في تخويل مجلس الأمن وحدة حق التدخل في أي نزاع يخشى منه قيام الحرب.
رابعا : انتهكت قوات الغزو الأمريكي والبريطاني المادة 25 من اتفاقيات لاهاي سنة 1908 بشأن العمليات الحربية التي توجب تحديد ساحة القتال ضمانا لحسن سير العمليات العسكرية، مما يعني تحييد المناطق السكنية والمنشآت المدنية عند بداية الحرب إلا أن قوات الغزو الأمريكي والبريطاني استباحت كل الأراضي العراقية وجعلتها ساحة قتال فلم تفرق بين منشآت مدنية أو عسكرية، فطال القصف الوحشي المستشفيات والمدارس ودور العبادة وأماكن التسوق وجميع مرافق الدولة والبنية التحتية لها فحولت جميع مدن العراق إلى خراب ودمرا وهي تدعوا الآن المجتمع الدولي لإعادة إعمار العراق.[84]
خامسا : انتهكت قوات الغزو الأمريكية والبريطانية المادة 22 من اتفاقية لاهاي لسنة 1907 بشأن حظر استخدام الوسائل الهمجية في الحرب إذا كانت تلك المادة تتحدث عن أسلحة فتاكة صنعت عام 1908 وهي الرصاص المتفجر والإشعاعي فإن قوات الغزو الأمريكي والبريطاني على العراق استعملت أحدث ما توصل إليه العلم والتكنولوجيا في مجال صنع الأسلحة التدميرية والتجريبية في القرن الحادي والعشرين.
سادسا : انتهكت قوات الغزو الأمريكية اتفاقية لاهاي سنة 1908 بشأن التمييز بين المحاربين وغير المحاربين فقد طال القصف الوحش جميع أفراد الشعب العراقي من أطفال ونساء وشيوخ في مشاهد نقلتها جميع الفضائيات العربية والعالمية ولا تحتاج إلى دليل أكثر من ذلك.
سابعا : انتهكت قوات الغزو الأمريكية والبريطانية المادة 114 من اتفاقية جنيف الثانية في 12 أغسطس سنة 1949 المتعلقة بأسرى الحرب في وجوب معاملة أعضاء حركة للمقاومة العراقية، معاملة الأسرى وليس كإرهابيين كما تفعل قوات التحالف الأمريكي والبريطاني. وتسعى لحشد الجهود الدولية من خلال الأمم المتحدة لهذا الغرض وقد كانت أحداث سجن أبو غريب للمعتقلين العراقيين والتي تفجرت فيما بعد من أقوى الأدلة على هذه الانتهاكات.
ثامنا : انتهكت قوات الغزو الأمريكي والبريطاني المادة 117 من اتفاقية جنيف لسنة 1941 بشأن معاملة أسرى الحرب.[85]
تاسعا : انتهكت قوات الغزو الأمريكية والبريطانية المواد 12 حتى 59 من اتفاقيات لاهاي سنة 1908 بشأن تحديد الأطر القانونية للسلطة العسكرية على أراضي الدولة المحتلة.[86]
والتي تقتضي بأن الاحتلال لا يؤدي إلى تعديل الهيكل السياسي للدولة الواقعة تحت الاحتلال ويظل رئيس الدولة الشرعي محتفظا بممارسة اختصاصاته.
عاشرا : انتهكت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا مبادئ الأمم المتحدة ومختلف القرارات الصادرة عن المنظمة الدولية بشان نظام الأمن الجماعي حيث جاء الغزو كعمل انفرادي متخطيا لمجلس الأمن المختص أصلا بالحفاظ على السلم والأمن الدوليين الأمر الذي دفع بالأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان إلى سرعة تقديم تقرير إلى الجمعية العامة تحت رقم 323 في 22 سبتمبر 2003 يتساءل فيه عن شرعية استخدام القوة في العلاقات الدولية بمناسبة غزو العراق بدون تفويض من مجلس الأمن كما طرح سؤال آخر عن شرعية الحروب الوقائية لمنع اعتداء وشيك وهي النظرية التي أطلقها الرئيس الأمريكي كذريعة لغزو العراق.[87]
ومما لاشك فيه أن غزو العراق أصبح يشكل كابوسا للإدارة الأمريكية ولم تعد تملك سوى الاستمرار في هذا الكابوس إلى أن تستيقظ، وقد وجدت نفسها خارج البيت الأبيض بعد أن تكون قد سجلت نفسها على أكثر صفحات التاريخ دموية وعطشا للنفط.
*****
يتبع...
وليد اسكاف . المرجع السابق
هذا التوجه المتمثل في عدم الاكتراث بالمؤسسات والأعراف الدولية والتركيز على البعد الأحادي في السياسة الخارجية في عهد بوش الإبن، كان سببا في توترات في العلاقات الأمريكية الأوروبية ففيما نرى أن الولايات المتحدة قوية وتركز في الوقت نفسه على مجموعة متميزة من التهديدات الأمنية، مما جعلها تسعى في السنوات الأخيرة إلى زيادة حريتها في العمل إلى الحد الأقصى وتقليل القيود على تصرفها، من أجل احتواء هذه التهديدات ودحرها، وحدها عند الضرورة.
ونرى أنها تميل إلى الانعزال والتصرف الأحادي الجانب، ذلك أن ذوي النزعة الأحادية الجانب يحتلون الآن مناصب مرموقة في الإدارة. وخاصة في كونغرس، وهم يركزون على تعزيز القوة الأمريكية والحفاظ على السيادة الأمريكية. فهم يفضلون الاعتماد على الذات، ويرفضون النزوع إلى العمل الجماعي، والمعاهدات الدولية باعتبارها قيودا غير ملائمة على قدرة أمريكا على تنفيذ إرادتها، فهم يفضلون القوة الصلبة والجبروت العسكري والعضلات الاقتصادية والزعامة الدبلوماسية على القوة اللينة[49] للمعاهدات والأعراف الدولية، ومنابر التفاوض.
وعند الكثير منهم لا يمكن أن ترفع نفقات الدفاع الأمريكية على نحو كاف أبدا. كما أن المساعدة والدعم الخارجيين اللذين تقدمهما الولايات المتحدة للمنظمات الدولية لا يمكن إنقاصها بما فيه الكفاية على الإطلاق.
أما المشاورات فهي من أجل التحدث، وليس الاستماع، والمساواة تنطوي على أخذ لأعلى عطاء، إنها السياسة الخارجية الواقعية العنيدة القائمة على فكرة قديمة وهي الفكرة القائلة إن القوي يفعل ما يشاء، أما الضعيف فيفعل ما هو مضطر إليه، وليست هذه الطريقة الأوروبية في القرن الحادي والعشرين على الأقل، فالأوروبيون يتبعون تقاليد الاندماج الأوروبي المتعدد الأطراف، ومرغمون بسبب نقص القوة على التحرك على أساس التعاون، هكذا يرون أن السياسة الخارجية ينبغي أن تهدف وبشكل رئيسي إلى بناء أنظمة دولية. وصياغة تعاون موسع، ويتبع جراء من الإيمان بالحلول التعددية عند الأوروبيين من الاعتقاد بأن كثيرا من التحديات العالمية من الاحتباس الحراري، والهجرة إلى موقف انتشار الأسلحة والتدخل في الدول ومصالحها ليست قابلة لحلول أحادية الجانب حتى لو اضطلع بها بلد مثل الولايات المتحدة. ورغم أن التركيز على الأحادية الأمريكية لم يبدأ بشكل كبير إلا منذ مجيء جورج بوش، فإن الفوارق بشأن كيفية معالجة القضايا الكبرى بين الولايات المتحدة وبقية العالم لم تكن ظاهرة حديثة. فإدارة كلينتون بعد فترة رئاسته الأولى كثيرا ما كانت تهتم بإتباع طريق أحادي الجانب، وقائمة الشكاوى طويلة رفض أمريكا التوقيع على حظر الألغام الأرضية، ورفضها أن تكون طرفا في محكمة الجرائم الدولية.[50]
لقد طرح بعض المحللين سؤالا يفرض نفسه وهو لماذا تغشى الولايات المتحدة أن يطول قضاء المحكمة رعاياها ؟ ولماذا التخوف على أفراد جيشها من الذين قاموا بمهمات التدخل العسكري في أقطار أجنبية إذا لم يكن لهم ما يؤاخذون عليه ؟ لاشك أن خوف الولايات المتحدة من المحكمة ما يبرره لذلك فإن معارضة الولايات المتحدة لهذه المحكمة لازالت مستشرية وقوية حيث ظهر من تدخلاتها المتعاقبة رفض مبدأ خلق المحكمة وعدم قبول الاحتكام إلى العدالة الدولية.
ورفضها تسديد ديونها بالكامل للأمم المتحدة ورفض مجلس الشيوخ الأمريكي لمعاهدة منع التجارب النووية، وطريقة إدارتها الدبلوماسية والعسكرية لأزمة كوسوفو وحربها.[51]
ثم رفضها إيجاد حل وسط بشأن تطبيق بروتوكول كيوتو حول التغيير العالمي في المناخ، ومتابعتها لنشر دفاعات ضرورية صاروخية محظورة بموجب معاهدة عام 1972 التي تحظر القدائف الصاروخية ذاتية الدفع.
وقد اكتسب هذه القضايا أهمية بارزة في عهد كلينتون ومعظمها باق كمصدر للنزاع اليوم، ومع ذلك فإن رد الفعل الأوروبي إلى الأحادية الأمريكية كان خافت الصوت، طيلة سنوات حكم كلينتون أكثر مما هو عليه اليوم في الأشهر التي تلت مجيء بوش للسلطة.
ويعود جزء من سبب هذا التغير في اللهجة إلى أن الرئيس كلينتون كان كثيرا ما يعطى لنفسه مظهر شخص مرغم على اتخاذ مواقف أحادية ضد رغبته الذاتية الصريحة، فقد كان كرئيس يتحدث بلغة التعددية، حتى ولو لم يغشى مشية التعددية.[52]
وعلى العكس من ذلك فقد أعطت إدارة بوش كل إشارة إلى أنها صالحة تماما في كثير من هذه السياسات الأحادية الجانب. فالرئيس الأمريكي ومستشاروه يعتبرون وبشكل صريح، أن الاتفاقيات الدولية أداة متجاوزة لهذا قررت الإدارة الأمريكية مراجعة اتفاقاتها الدولية. مما يعكس حالة من العداء الإيديولوجي من طرف الأمريكيين للقانون الدولي، وهو شعور بدأ يتنامى منذ مدة بين ما يعرف باليمين المتطرف وأصبح عاما في الحزب الجمهوري، تحت إدارة بوش.
ويرجع هذا إلى قناعة راسخة، بأن المعاهدات الدولية والقانون الدولي يشكلان خطرا على الولايات المتحدة الأمريكية لأنهما يحدان من حريتهما وسيادتهما.[53]
هذا التوجه الأحادي النزوع، كان سببا في الكثير من الاحتجاجات الصارمة، والتي لم تقتصر على قرار بوش بإعلان وفاة الاتفاق المتعددة الأطراف حول التغير المناخي الذي وقعه أكثر من مائة بلد، ومن ضمنها الولايات المتحدة برئاسة كلينتون بل شملت التعليل الذي برر هذا القرار أيضا، فمعارضة بوش لكيوتو لم تقم أساس التدرع بأن الاتفاقية غير فعالة. أو حتى على أساس أن المشكلة التي تسعى الاتفاقية لمعالجتها قد بولغ فيها. ولكن على عدم الاستعداد لدفع شحن معالجة مشكلة عالمية تتحمل الولايات المتحدة عنها مسؤولية غير متناسبة.
وأوضح بوش أنه نظرا لكون الولايات المتحدة تواجه أزمة طاقة، ولأن اقتصادها قد تباطأ فإن تقليص انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون ليست واردا في جدول الأعمال، وهكذا فإن ما أزعج أوروبا وبقية العالم هو تدرع بوش بحجة أمريكا أولا وعدم اهتمامه الظاهر بالكيفية التي تؤثر بها أعمال أمريكا على الآخرين.
وبالمثل فيما يخص الدفاع الصاروخي، لم يكن الموضوع هو رغبة إدارة بوش في الدفاع ضد تهديدات جديدة في عالم ما بعد الحرب الباردة، بقدر ما هو عزم أمريكا الواضح على متابعة هذا الطريق مع العلم الكامل بأن ذلك ينطوي على خرق معاهدة حظر القذائف ذاتية الدفع أو الانسحاب منها وهي تحظر تطوير وتجربة، ونشر هذه الدفاعات نفسها التي تسعى الإدارة لنشرها.[54]
هذا البعد الأحادي في السياسة الخارجية الأمريكية في عهد بوش الابن قاد بعض الدارسين إلى الاهتمام بالنزعة الإمبريالية للإدارة، وقد جاء أشمل توصيف لهذه النزعة فيما أورده إيكنبيري في تقييمه للسياسة الخارجية لإدارة بوش، فهو يرى أن لأمريكا طموحات إمبراطورية، فقد تخلت الإدارة عن مرتكزات السياسة الخارجية في إطارها العام. التي تقوم على الواقعية والتوجه الليبرالي ويعتقد أن إدارة بوش رسمت إستراتيجية جديدة تقوم على ستة مقومات وهي باختصار :
1- المحافظة على نظام القطب الواحد.
2- تحليل جديد للأخطار العالمية.
3- زوال إستراتيجية الردع، وظهور إستراتيجية الهجوم الوقائي.
4- إعادة تعريف مفهوم السيادة، بملاحقة الإرهابيين.
5- التقليل من أهمية القواعد والمعاهدات الدولية.[55]
الفقرة الثانية : التعسف في استعمال حق القوة
1- التغير القسري للأنظمة وخرق سيادة الدول :
يعتبر مبدأ الوطنية مبدأ قديما، قدم فكرة الدولة ذاتها أما السيادة فهي وضع قانوني ينسب للدولة عند توافرها على مقومات مادية من مجموع أفراد وإقليم وهيئة منظمة وحاكمة.
وتمثل السيادة في لغة القانون الدولي، ما للدولة من سلطان على الإقليم الذي تختص به بما يوجد فيه من أشخاص وأموال.
ومن مقتضيات هذا السلطان : أن يكون مرجع تصرفات الدولة في مختلف شؤونها إرادتها وحدها.
إلا أنه مع وجود القانون الدولي وكون الدول تربطها مصالح مشتركة مع بعضها، فإن ذلك فرض عليها نوعا من التعاون، بحيث ليس لدولة في سبيل تحقيق مطالبها الخاصة أن لا تكترث بمصالح الدول الأخرى بل يجب أن تكون ممارستها في حدود القانون الدولي وحدود تعهداتها والتزاماتها الدولية، لأن هذا لا يعني الانتقاص من سيادتها وفي هذا الإطار يتجه تطور الحياة الجماعية في المحيط الدولي، نحو التخفيف من حدة فكرة السيادة شيئا فشيئا، حتى يسهل التعاون اللازم بين الدول لنهوضها بالمهام الإنسانية الملقاة على عاتقها وفي مقدمتها صياغة السلم والأمن العام.
لقد كان مفهوم السيادة مبالغا فيه فمكيافلي مثلا جعلها في دورة القداسة إضافة إلى أراء أخرى في هذا المجال، كثيرة ومتعددة، كلها تقدس الدولة وتبرز ما لسياستها من أهمية وأولوية.
وعند نشأة عصبة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى، خطى العالم خطوة واسعة نحو تعاون الدول والحد من القداسة المفرطة لسيادتها بما قررته العصبة عن قيود التزمت بها الدول التي دخلت كأعضاء فيها كذلك فرض ميثاق الأمم المتحدة عدد من القيود المماثلة تهدد الدول الأعضاء في الهيئة بمراعاتها في تصرفها، وكلها قيود ليست فيها انتقاص من سيادة الدول الأعضاء أولا لأنها عامة، ثانيا لأن هذه الدول قبلتها عن طواعية واختيار.[56]
لكن السيادة في هذا العهد الجديد اهتزت إلى حد القول بأن فكرة السيادة في طريقها إلى النزول تحت تأثير المتغيرات الجديدة لتصل محلها فكرة المصلحة العامة، والدعوى إلى وجوب إخضاع مصلحة الدولة الخاصة للمصلحة العامة للمجتمع الدولي.
وهو ما حدا بالبعض إلى القول بأن دولة التنظيم المعاصر بالمفهوم الجديد للسيادة، قد باتت عضوا في المجتمع الدولي تتحرك ضمن حدود القانون وتلتزم بأوامره وتتعرض مثلما يتعرض الأفراد للزجر والتنبيه والعقوبات الأخرى عند الإخلال بالالتزامات الدولية.
بيد أن أحد لم يتصور قط أن يأتي يوم يصدر فيه هذا الزجر والتنبيه عن دولة من الدول، يفترض نظريا أنها متساوية قانونا مع الدولة التي قد يوجه إليها هذا الزجر والتنبيه أو العقاب.
وهذا تماما هو ما أقدمت وتقدم عليه الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، ضاربة عرض الحائط بمبدأ السيادة الوطنية، وبالمساواة في السيادة بين الدول وعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول ولاشك أن انتهاء الحرب الباردة نتيجة لانهيار الاتحاد السوفيتي السابق وبوادر الخلاف المتعاقد بين الولايات الأمريكية وأوربا. قد أدى إلى محاولات أمريكية متواترة لتجاوز مبدأ السيادة في عدد لا يخص من الحالات واقترن ذلك بمحاولات تقنين هذا التجاوز.
ويمكن لنا في هذا السياق رصد الجهود الأمريكية لتعزيز مبدأ التدخل الإنساني واتخاذ حقوق الإنسان كذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى باعتبارهما محورين رئيسيين للعمل على تقويض ما تبقى من مبدأ السيادة الوطنية، وذلك على الأقل بالنسبة لشريحة لا يستهان بها من دول العالم الثالث، ويحدث هذا التدخل والتجاوز إما من خلال قرارات تصدرها الولايات الأمريكية المتحدة عن طريق مجلس الأمن، أو عن طريق الفصل المباشر من جانب الولايات المتحدة بل والتهديد العلني والمباشر لهذه الدول والمواقف الأمريكية الأخيرة من سوريا وإيران وكوريا الشمالية في غنى عن أي تعليق.[57]
وعندما يقف الرئيس الأمريكي بوش، ويطلب من رؤساء بعض الدول أو الحكومات ترك مناصبهم، أو عندما يدعو المسؤولون الأمريكيون إلى الأخذ بالنظم الديمقراطية في بعض الدول، هنا وهناك دون حل ودون أن ترتفع صيحات الإدانة قوية بالاعتراض على هذا التدخل السافر في أخص الشؤون الداخلية، فإن علينا أن نتساءل عما بقي حقا من مبدأ السيادة الوطنية في ظل الهيمنة الأمريكية.[58]
إن الأمر يبدو على أكبر درجات الخطورة، عندما يتعلق بإرساء السوابق الدولية التي يمكن تكرارها في العمل الدولي، بما قد يمهد السبيل لإرساء قواعد عرفية جديدة قد تنسخ القواعد القانونية المستقرة.
إن المجتمع الدولي الذي اعتاد أن ينصت اليوم لخطاب التهديد والوعيد الأمريكي الموجه إلى دول يعينها إذ لم تتمثل لأمور معينة، قد يعتاد مثل هذا الخطاب وقد ينظر إليه بعد بين طال أم قصر. على أنه أمر طبيعي معتاد ولا يجد عصاصة في تقبله كقاعدة من قواعد القانون.
وهنا تكمن الخطورة ويكمن التركيز الأمريكي على هذه الثغرة التي يحاول من خلالها أن يفترق ما بقي من السيادة الوطنية على اعتبار أن السيطرة الأمريكية على مقدرات العالم الراهن وإمساكها بزمام الأمور يفترض بالضرورة إضعاف مبدأ السيادة الوطنية إلى أبعد مدى بحيث لا يكون هذا المبدأ أمام انسياب قانون أمريكي جديد، يختلف في أسسه ومخالفته للقانون الذي وضعه المجتمع الدولي والعمل بموجبه والانصياع لأحكامه.
هذا القانون لا يتوقف طويلا أمام مبادئ السيادة الوطنية لا يلقى بالا للمساواة بين الدول، أو لوجوب الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية، ولكنه يكثر الحديث عن حقوق الإنسان وعن الدول التي لا تلتزم بتطبيق أحكام ومعايير حقوق الإنسان حسب التعريف الأمريكي ووجوب إنزال العقاب بها.[59]
2- الحرب على العراق كجريمة دولية وتكريس فعلي لواقع القوة في العلاقات الدولية :
لقد أطلقت عملية العدوان الأمريكي على العراق رصاصة الرحمة على منظومة الأمم المتحدة والتي بدأت احتضارها منذ عاصفة الصحراء، والتي ترجحت ميزان قوى دولية جديدة أفرزته نهاية الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي المندثر وأيلولة النظام الدولي إلى قطب واحد ووحيد هو الولايات المتحدة الأمريكية.
ولقد بدأت الأمم المتحدة تتلمس هذه الحقيقة في مطلع التسعينات من القرن الماضي وابتدأت تتلاءم مع الكثير من القضايا التي عرضت على مجلس الأمن.
لكن الولايات المتحدة سرعان ما انتقلت من طور استدراج الأمم المتحدة للبصم على قراراتها إلى طور تجاوز الأمم المتحدة ذاتها في تلك الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية تحت مظلة الأطلسي بعيدا عن أي إجازة قانونية دولية من الأمم المتحدة بالإضافة إلى حرب تدمير العراق الذي تعيش فيه اليوم.[60]
حيث عكست هذه الحرب أكثر من غيرها التطبيق الفعلي لعدم الاهتمام بالأمم المتحدة، عندما شنتها الولايات المتحدة على الرغم من فشلها في الحصول على قرار مجلس الأمن بهذا الصدد، مستهدفة بذلك الشرعية الدولية وإرادة المجتمع الدولي، مما وضع الأمم المتحدة أمام تحد خطير يمس اختصاصاتها ودورها بل ويرهن مصيرها ومستقبلها.[61]
3- تهميش مجلس الأمن في الحرب على العراق :
تعيش الأمم المتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة كما سبقت الإشارة تهديدا عاصفا بما يشبه انقلابا عميقا في المركز والدور ومجال التدخل، ومن المؤكد أن جوهر هذه الأزمة التي تعاني منها الأمم المتحدة ومن خلالها القانون الدولي والشرعية الحربية يكمن بالأساس في طبيعة العلاقات التي شرعت الولايات المتحدة في تشكيلها غداة انفرادها بقيادة العالم دون منافس، أو رادع مما يؤشر لبداية تاريخ جديد للإنسانية إحدى مقوماته سيادة قانون الأقوى واستبعاد القانون الدولي التقليدي، وفرض الهيمنة المطلقة على الأسرة الدولية، كالولايات المتحدة الأمريكية بعد أن بزغت كدولة ذات نزعة إمبراطورية تتجه نحو تحويل مجلس الأمن الأداة التنفيذية للأمم المتحدة إلى هيئة أشبه بحكومة ديكتاتورية غير مسؤولة وغير شرعية أيضا معرضة لإصدار قرارات غير دستورية دون أن يكون في مقدور أي جهاز آخر أن يحرك أي نوع من أنواع الرقابة السياسية أو القضائية اتجاهه واتجاه الأعمال التي تمارس، سواء تحت عطائه أو بدونه والتي يكون سببها الرئيسي مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى إلى رسم سياسة تهدف في آخر المطاف إلى تهميش وإضعاف دور الأمم المتحدة، إن هي لم تساير توجهاتها التوسعية الإمبراطورية.
وقد تجلت معالم هذه السياسة في الحرب الأخيرة المعلنة على العراق بعد أن شنتها دون موافقة مجلس الأمن وفرضت احتلالا غير مبرر على دولة ذات سيادة وعضو بهيئة الأمم المتحدة، مما جعل دور مجلس الأمن يبدو باهتا ومتحاورا لم يتعد وظيفة تزكية وتوجهات القوى الكبرى كما كان عليه الحال إبان مرحلة الثنائية القطبية التي عان فيها المجلس، وهي مرحلة من الشلل في حركته وقدرته على التدخل بفاعلية لحل الأزمات الدولية، وهي مرحلة رأي بعض الباحثين أن انتهائها سيؤدي إلى تفعيل دور المجلس على عكس ما هو عليه اليوم خاصة أن غياب الفيتو السوفييتي سوف يعطى مجلس الأمن القدرة على التدخل في النزاعات الدولية، واتخاذ القرارات فاعلة بشأنها، وأنه سيكون قادرا على تنفيذ هذه القرارات، مدللا على ذلك بدوره في حرب الخليج الثانية.
لكن خبرة التسعينات أثبتت انحسار هذه الآمال فبعد أن كان المجلس خاضعا محكوما بالفيتو السوفييتي والأمريكي، فإنه خضع للقوة الأمريكية المنفردة، وغلبت عليه سمة الازدواجية بحيث أنه كان فاعلا فقط في النزاعات التي لا تتعارض مع المصالح الأمريكية.
أما في العديد من النزاعات التي تتعارض مع المصالح الأمريكية، فلم يتم بالدور الفاعل اتجاهها. وخاصة اتجاه النزاع العربي الإسرائيلي، حيث استخدمت أمريكا حق الفيتو اتجاه العديد من القرارات التي تدين العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين أو الشوكة التي قصدت ظهر البعير. فقد كان العدوان الأخير على العراق والذي كرس النظام الدولي أحادي القطبية، وأكد بأن لا معارضة دولية حقيقية تشكل تحديا للقوة الأمريكية، فالمعارضة الدولية التي تجسدت في موقف بعض الدول الكبرى فرنسا روسيا ألمانيا لم تتجاوز كونها معارضة سياسية ارتبطت بمصالح هذه الدول، ومدى تأثير هذه الحرب.
ما من شأنه أن يزيد من فعالية مجلس الأمن لأنه سوف يكون قادرا على التدخل في النزاعات الدولية واتخاذ القرارات بشأنها، وقادرا على تنفيذها.
لكن هذه الفعالية تتسم بغياب العدالة في كثير من النزاعات التي تكون الولايات المتحدة طرفا فيها أو ترتبط معها بمصالح.[62]
نخلص من كل ذلك إلى أن الأزمات الخطيرة التي مرت بها الأمم المتحدة تكاد كل مرة أن تعصف بمصداقيتها، وبدورها في حفظ التماسك الدولي والسلام العالمي تعرض التفكير من قبل متخذي القرار الدولي في إعادة النظر في هذه الهيئة وجهازها التنفيذي مجلس الأمن.
فطبيعة تشكيل المجلس حسب البعض تعكس الصبغة التي اصطبغت بها العلاقات الدولية غداة الحرب العالمية الثانية، والتي قسمت العالم إلى دول منتصرة وأخرى منهزمة، فترجم شكل هيئة دائرة الأقوياء بالمجلس، هذه الحقيقة التي تعززت بانشطار الدول إلى معسكرين معسكر اشتراكي ومعسكر رأسمالي.
لكن ومع تغيير الظروف الدولية بات إصلاح مجلس الأمن ليقوم بدوره في حفظ الأمن الجماعي مطلبا ملحا، وذلك من خلال مراجعة حق النقض الذي تنفرد به الدول الدائمة العضوية والذي يعد عقبة حقيقية أمام عمل المجلس وفتح المجال لدول أخرى كاليابان وألمانيا لتعطى بدور أكبر في المنظومة الدولية وبعض دول العالم النامي التي حققت نموا مهما في العقود الأخيرة.
ومن جهة أخرى، وعلى مستوى السلطة القرارية لمجلس الأمن تقتضي تحولات المشهد السياسي الدولي وإعطاء فعالية أكبر لقرارات المجلس بإسباغ الديمقراطية عليها وإيجاد آليات لتفعيلها بدل تركها رهينة مصالح الدول الكبرى التي تكيل بمكاييل متعددة إزاء القرارات الأممية حسب التوجهات الإيديولوجية والمصالح المتضاربة في عالم أصبحت فيه القوة العنصر المتحكم في العلاقات الدولية.
إن مثل هذه الحلول من شأن تطبيقها أن يساهم في عودة الأمن العالمي إلى نصابه لكنها فيما يبدو حلولا أقرب إلى الخيال منها للواقع. فالدول الخمس الكبار ستتخلى عن امتيازاتها التي يحققها الفيتو بسهولة ولا القطب الأكبر الولايات المتحدة سيقبل بإسباغ الديمقراطية على قرارات مجلس الأمن خاصة وأنه محكوم الآن أكثر من أي وقت مضى بمنطلقات المصلحة الخاصة والأنانية وفكرة التوسع الإمبراطوري.
فالقاعدة الثابتة في عمل الأمم المتحدة هي "إذا أردت استطعت" بمعنى أن الإرادة تسبق القدر.[63]
أي أن إصلاح الأمم المتحدة بخاصة محكوم بتوجه إرادة الطرف الأقوى نحو هذا الإصلاح لكن المؤكد أن هذه الإرادة لا توجد إلى حد الآن.
4- الاستخدام المفرط للقوة العسكرية وانتهاكات حقوق الإنسان :
لقد عرفت الحرب على العراق مظهر من مظاهر الاستخدام المفرط للقوة العسكرية وعدم مراعاتها للأوضاع الأمنية والإنسانية للشعب العراقي. فقد أرادت القوات الأمريكية في هذه الحرب إثبات نظرية الصدمة والرعب التي هيمنت على تفكير سلاح الجو الأمريكي منذ عقود، تقوم هذه النظرية على توجيه ضربات قوية للخصم منذ البداية بهدف القضاء على أنظمة القيادة والسيطرة لديه، وتدمير الدفاعات الجوية وإيقاع أكبر قدر من الخسائر لشل حركته والقضاء عليه من الضربة الأولى وبالفعل قامت القوات الأمريكية في اليوم الأول للحرب بإسقاط أكثر من 1300 قنبلة وقديفة صاروخية على بغداد ومدن عراقية أخرى، اشتملت الضربات أيضا 320 صاروخ من طراز توماهوك،[64]
وبالرغم من صعوبة تواجد المنظمات المهتمة بحقوق الإنسان بسبب الأوضاع الأمنية السيئة أثناء وبعد الحرب على العراق إلا أنه كانت هناك بعض الزيارات التي قامت بها هذه المنظمات، حيث عبر تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية في 18 أبريل 2003 عن قلق المنظمة العميق إزاء تزايد عدد الإصابات في صفوف المدنيين في العراق نتيجة استخدام القوات الأمريكية للقنابل العنقودية في المناطق ذات الكثافة السكانية.[65]
هذا ما أكدته منظمة هيومن رايتش روتش التي قالت في تقرير لها إن القيادة الوسطى للجيش الأمريكي استخدمت 10782 من القذائف العنقودية التي قد تحتوي على 1,8 مليون قنبلة على الأقل كما استخدمت القوات البريطانية 70 قذيفة عنقودية أطلقت من الجو و2100 أطلقت من الأرض وتحتوي على 113190 قنبلة، ورغم أن شن الهجمات بالذخائر العنقودية محفوف بأخطار بالغة من المناطق الآهلة بالسكان، فقد عمدت القوات البرية الأمريكية والبريطانية إلى استخدام هذه الأسلحة مرارا في هجمات على المواقع العراقية في الأحياء السكنية.
في تقرير آخر، عبرت منظمة العفو الدولية عن قلقها بشأن بيان صادر من بول بريمر رئيس الإدارة المؤقتة في العراق 27 يونيو 2003 قال فيه "بأن اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 من المعيار الوحيد دو العلة المعمول به في سياق ممارسات الاحتجاز من جانب قوات التحالف، وإن هذه الاتفاقية تتقدم على سواها من اتفاقيات حقوق الإنسان شددت المنظمة على أنه يجب الالتزام أيضا بأحكام معاهدات حقوق الإنسان الأخرى التي يعتبر العراق طرفا فيها، وليس حوادث تم خلالها إطلاق النار على متظاهرين، مدنيين عراقيين على أيدي جنود أمريكيين مما تسبب في مقتل عدد من هؤلاء المتظاهرين كما أشارت المنظمة إلى أنها تلقت عددا من التقارير حول وقوع حوادث تعذيب أو سوء معاملة للمعتقلين العراقيين على أيدي القوات الأمريكية مثل الحرمان من النوم ووضع القناع على الرأس والوجه لفترات طويلة وتعريض المعتقل لأضواء ساطعة بالإضافة إلى وقوع حالات وفاة في الحجز تنتج معظمها عن حوادث إطلاق نار على أيدي قوات التحالف أو بسبب سوء المعاملة.[66]
ومن بين مظاهر انتهاكات حقوق الإنسان في العراق أيضا الغطرسة والتعالي التي يتعامل بها الجندي الأمريكي مع المواطن العراقي، مثل وضع الجنود أرجلهم على رؤوس العراقيين، وتفتيش المجندين الذكور لمواطنات عراقيات ولمس أجسادهن بطريقة مهينة.
لم تقتصر هذه الانتهاكات على الشعب العراقي فحسب فقط بل شملت أيضا الصحفيين العاملين في العراق، حيث تعرضوا للأذى من قبل القوات الأمريكية بدءا بالتوقيف والتفتيش مرورا بالاعتقال وانتهاء بالقتل. وقد أحصت منظمة صحفيون بلا حدود أعداد من قتلوا من الصحفيين في العراق خلال عام 12 صحفيا.[67]
إن هذه الممارسات تزيد من موجهة العداء المتصاعدة أصلا ضد الولايات المتحدة الأمريكية، وتجعل الآخرين ينظرون إليها بأنها دولة متغطرسة لا تأبه بالأنظمة والقوانين الدولية، والسؤال المطروح لماذا تتصرف الولايات المتحدة على هذا النحو ؟
المطلب الثاني : الواقع الإقليمي لاستعمال حق القوة
التغيرات الإقليمية هي تصرف أو مجموعة من التصرفات أو الأفعال تتخذها دولة أو أكثر حيال دولة أو أكثر أو حيال شعب أو أكثر من شأنها انتهاك قاعدة دولية آمرة أو ملزمة تنظم مركزا قانونيا أو تنشئ حقا دوليا معترفا به.
وتتعدى صور التغيرات الإقليمية غير المشروعة فقد تأخذ شكل حرمان شعب من الشعوب من ممارسة حقوقه المشروعة المقررة له وفق مواثيق والإعلانات الدولية كحقه في تقرير المصير أو منعه من ممارسة حقه في أن يعيش في مجتمعه دون تمييز أو تفرقة بسبب عونه أو جنسيته أو معتقده، على أن أهم صورة من صور التغيرات الإقليمية غير المشروعة هي سعي دولة ما نحو تحقيق مكاسب إقليمية أو ترابية عن طريق احتلال أراضي الغير أو الاستيلاء عليها باستخدام القوة العسكرية.[68]
وبذلك أصبحت القوة العسكرية تستخدم بهدف الاستعمار الفقرة الأولى، ثم تستعمل بهدف التحرير الفقرة الثانية.
الفقرة الأولى : استعمال القوة بهدف الاستعمار
1- الاحتلال الحربي للعراق :
بدأت الحرب الأمريكية على العراق عارية من أي عطاء شرعي مقبول. خصوصا بعد سقوط المبررات التي ساقتها الولايات المتحدة الأمريكية والمتعلقة على وجه الخصوص بنزع أسلحة الدمار الشامل العراقية، الأمر الذي ضاعف من المعارضة الدولية للحرب وصار الحديث يتركز أكثر على الأهداف الحقيقية للحرب والقوى التي تقف وراء تأجج نارها، وعلى الرغم من اتسام هذه الحرب بعدم المشروعية، كونها تقررت ونفذت خارج سلطة الأمم المتحدة وتحديد مجلس الأمن، فقد سعت الولايات المتحدة الأمريكية منذ البداية لحشد الدعم العسكري الدولي، قصد إظهار الطابع الجماعي للفعل غير المفوض من مجلس الأمن، وقد نجحت الولايات المتحدة عقب احتلال العراق في الحصول على هذا الدعم من دول أوروبية وغير أوروبية ساهمت بقوات أرسلتها إلى العراق تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن كان المجهود الحربي قبل احتلال العراق ينحصر في قوات الولايات المتحدة تساعدها قوات من إنجلترا.
غير أنه وبالنظر لنجاح المقاومة العراقية التي أربكت المخططين العسكريين الأمريكيين، وحجم الخسائر التي لحقت بقوات الولايات المتحدة في العراق والمتطلبات والاحتياجات الأمنية والاقتصادية والسياسية التي يصعب النهوض بها من قبل دولة واحدة عادت الولايات المتحدة من جديد تطلب الدعم الدولي ولما كانت أغلب دول العالم قد ربطت مشاركتها في القوات الدولية العاملة في العراق بضرورة تفويض هذا العمل من مجلس الأمن، فقد اتجهت الجهود الأمريكية والدولية المشاركة في الحرب للضغط على الدول خصوصا منها الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن أو تلك الدول المؤثرة والتي أعلنت جهارا معارضتها للتدخل العسكري ضد العراق دون إذن مسبق من مجلس الأمن ألمانيا وذلك كله بقصد تحرير مشاريع قرارات تضفي المشروعية أو تعطي نوعان من الدعم العسكري أو المالي للمجهود الحربي الأمريكي في العراق.[69]
2- الذرائع المستخدمة لتبرير الحرب على العراق :
الحرب على العراق جاءت تتويجا للسياسة العدائية الأمريكية التي بدأها الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب وتابعها الرئيس كلينتون خلال فترة الرئاسة.
وقد بررت الولايات المتحدة حربها على العراق بأربع مبررات :
- المبرر الأول : هو منع العراق من امتلاك وتطوير أسلحة الدمار الشامل من نووية وكيمانية وجرثومية لما في ذلك من تهديد لأمن العالم ولأمن الولايات المتحدة الأمريكية سواء كان هذا التهديد بواسطة العراق لكي تستخدم ضد الولايات المتحدة أو ضد حلفائها.
- المبرر الثاني : هو الحيلولة دون أن يصبح العراق مركزا جديا إيواء المنظمات والعناصر الإرهابية، ولذلك حاولت الولايات المتحدة دون جدوى إثبات وجود علاقة بين العراق وتنظيم القاعدة.
- والمبرر الثالث : هو الإحاطة بالرئيس صدام حسين لأن الولايات المتحدة على حد تعبير بوش لا يمكنها أن تسمح لأسوأ القادة في العالم بابتزاز الولايات المتحدة وحلفائها وأصدقائها بأسلوب الأسلحة في العالم وباسم الدفاع عن الحرية أعطت لنفسها الحق في إحاطة حكومة الرئيس صدام حسين وتعويضها بحكومة ديمقراطية تلتزم بقرار الشرعية الدولية وتحسن معاملة شعبها وجيرانها.[70]
- والمبرر الأخير : يعنى أن مشاريع دمقرطة المجتمعات والدول الإسلامية تتعدى مرحلة الضغوط السياسية والدبلوماسية لتصل إلى مرحلة شن حروب التدخل ولذلك فإن مشاريع الدمقرطة العشرية وفقا للشروط الأمريكية والغربية هي مولد آخر من مولدات الانقسام الإيديولوجي الجديد في عالم ما بعد الحرب الباردة.
ولقد قسم الدكتور عبد الواحد الناصر الذرائع لتبرير الحرب على العراق إلى ذرائع قانونية وسياسية.
أولا : الذرائع القانونية لتبرير الحرب على العراق
الذرائع القانونية هي ثلاث ذرائع : اثنتان استخدمتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ إدارة بوش الأب إلى الابن، أولهما الادعاء بحالة الدفاع الشرعي في استخدام للقوة العسكرية ضد العراق منذ 1991 وإلى الآن. وثانيهما هو الادعاء العمل باسم المجتمع الدولي من أجل تنفيذ قرارات الشرعية الدولية وفي مقدمتها القرارات ومنها قرار 678 عام 1990 وقرار 687 عام 1991 و1441 وعام 2002 ولاسيما ما يتعلق بنزع الأسلحة العراقية "أسلحة الدمار الشامل".
أما الذريعة الثالثة فهي مرتبطة بمنطق الحرب على الإرهاب وتكمن في اعتبار الحرب على العراق جزءا في الحرب على الإرهاب والهدف من هذه الحرب هو منع النظام العراقي من تسريب أسلحة إلى الإرهابيين والحيلولة دون أن يصبح العراق كأفغانستان على عهد الطالبان. وهذا ما يفسر المحاولات المتكررة الأمريكية والبريطانية لإثبات وجود علاقة بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة.
ثانيا : الذرائع السياسية لتبرير الحرب على العراق
هذه الذرائع القانونية هي مجرد غطاء أو ستار لأنك حرب الخليج الثالثة لها ذرائع سياسية تتناقض مع الذرائع القانونية لهذه الحرب، هذه الذرائع السياسية لحرب الخليج الثالثة تشمل :
1- تحرير العراق من الحكم الديكتاتوري الدموي لصدام حسين.
2- دمقرطة العراق عن طريق إقامة حكومة ديمقراطية بديلة.
3- استخدام الموارد البترولية العراقية في إعادة إعمار العراق ورفاهية الشعب العراقي.
4- القضاء على التهديد العسكري الذي يمثله النظام العراقي بالنسبة لجيرانه وبالنسبة للأمن القومي الأمريكي الذي مجموع المصالح الحيوية الأمريكية في المنطقة بما في ذلك أمن إسرائيل بيد أن هذه الذرائع السياسية تكشف زيف الذرائع القانونية المدعى بها وتكشف من جهة أخرى عن الأسباب الحقيقية لحرب الخليج الثالثة.[71]
ثالثا : ضعف مصداقية مبررات الحرب على العراق
قد مر الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن تقريرا إلى مجلس الأمن في سبتمبر 2002 ذكر في التقرير سبع مبررات تستند عليها الإدارة الأمريكية لشن حربها على العراق وهي عدم احترام بغداد لستة عشر قرار صادر عن الأمم المتحدة وأن العراق يمتلك أسلحة الدمار الشامل وهو مسؤول عن انتهاكات لحقوق الإنسان من تعذيب واغتصاب وإعدامات فورية، وله ارتباط بالإرهاب ويحتجز لديه أسرى حرب من ضمنهم طيار أمريكي، وأنه لازال يحتفظ بثروات نهبها عند اجتياحه للكويت.
والولايات المتحدة استندت على ثلاث مبررات أساسية وذلك من أجل الوقوف على مصداقيتها وصحتها بعد انتهاء الحرب على العراق.
1- امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل :
من أكثر المبررات التي ركزت عليها الإدارة الأمريكية امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، هذا ما أكده بوولفووتيز نائب وزير الدفاع الأمريكي عندما قال "لقد تفاهمنا على نقطة واحدة هي أسلحة الدمار الشامل، ذلك لأنها تشكل الحجة الوحيدة التي يمكن أن يتوافق عليها الجميع".[72]
وبالفعل فقد طرح رئيس الولايات المتحدة وإعطاء إرادته هذه الحجة وفي أكثر من مناسبة، ففي اجتماع مع أعضاء الكونجرس في 26 سبتمبر 2002 قال الرئيس الأمريكي "إن الخطر على بلدنا فادح الخطر يتعاظم فنظام الحكم في العراق يملك أسلحة بيولوجية وكيميائية ويسعى إلى امتلاك قنبلة نووية وبما لديه من مواد انشطارية يستطيع أن يصنع واحدة في غضون عام واحد".
وفي خطابه عن حالة الاتحاد في 28 يناير 2003 قال أيضا : "فقد عملت الحكومة البريطانية أن صدام حسين سعى مؤخرا للحصول على كميات ضخمة من اليورانيوم وفي 5 فبراير قال وزير الخارجية الأمريكي كولن باول أمام مجلس الأمن الدولي بأن تقديرنا المحتفظ هو أن العراق يملك اليوم مخزونا بين 100 و500 طن من الأسلحة الكيميائية.[73]
بالرغم من كل هذه التأكيدات وبعد عام من نهاية الحرب الأمريكية على العراق لم تستطع الولايات المتحدة تأكيد هذه الحجة، كما عجز الفريق الأمريكي الذي كلف بمهمة التفتيش عن الأسلحة المحظورة بعد احتلال العراق من العثور على أي منها. بل الأكثر من ذلك قامت الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع حليفتها بريطانيا بتلفيق بعض الأدلة عندما قالت بأن العراق سعى إلى شراء خمسمائة طن من أوكسيد اليورانيوم من نيجر يستخدم في صناعة الأسلحة الذرية، وفي مارس 2003 أعلن المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البردعي أن الوثائق التي قدمت بهذا الخصوص تشتمل على تلفيقات لا أساس لها من الصحة.[74]
2- علاقة النظام العراقي بالإرهاب تنظيم القاعدة :
سعت الإدارة الأمريكية إلى الربط بين أحداث الحادي عشر من سبتمبر والحكومة العراقية، واتهمتها بدعم الإرهاب وعلاقتها بتنظيم القاعدة يؤكد على ذلك ما كان يدور في الاجتماعات التي عقدتها الإدارة الأمريكية بعد الأحداث وتصريحات كبار المسؤولين فيها في 15 سبتمبر 2001 دعي مجلس الأمن القومي الأمريكي إلى اجتماع قدمت فيه عدة مداخلات كان من ضمنها مداخلة لنائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني قال فيها "إنني أريد أن أركز أكثر على قضية الدول التي ترعى الإرهاب وأريد أن ألفت النظر إلى التركيز على دول لها كيان واضح أسهل من التركيز على جماعات ليس لها ملامح الدول التي ترعى الإرهاب متجسدة والجماعات الإرهابية مجرد أشباح وأظن أننا سوف ننجح أكثر في العمل ضد جسد ولا ننجح بالقدر الكافي ضد أشباح"، في نفس اليوم دعا الرئيس أركان إدارته إلى اجتماع غير رسمي خاطب فيه جوش الحضور قائلا : الشعب الأمريكي يريد عملا كبيرا مهولا فرقعة عظيمة لا أريد معركة واحدة، ولكن أريد حربا ممتدة يشعر بها الشعب الأمريكي، ويتأكد أننا نواصل الدفاع عنه حتى أقاصي الأرض ضمن الردود التي جاءت على كلام الرئيس قال بولار لفويتز نائب وزير الدفاع "إن ما يطلبه الرئيس يمكن أن يتحقق في حالة واحدة، هي حالة أن نوجه ضربتنا إلى الدول الراعية للإرهاب أو الدول الإرهابية والعراق أول القائمة بوجود صدام حسين على رأسه، في مقابلة جمعت بين كارل روفي كبير مستشاري الرئيس للشؤون الداخلية مع وزير الدفاع رامسفيلد للحديث معه عن سر الفتور الذي يسيطر على الحرب الأمريكية ضد أفغانستان لابد أن نوجه ضربتنا بعد الآن إلى الدول الراعية للإرهاب، الدول الإرهابية العراق أولها، صدام حسين ليس له صديق في العالم يدافع عنه حتى في روسيا وفي الصين وهو رجل يصعب على أحد أن يقول فيه كلمة طيبة في حقه.[75]
يتضح مما سبق أن هناك نية مبيتة لدى بعض أعضاء الإدارة الأمريكية على مهاجمة العراق من خلال ربطة الإرهاب، وكانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر فرصة مناسبة لتحقيق ذلك، لذا بدأ الحديث في العلن عن علاقة النظام العراقي بالإرهاب وبتنظيم القاعدة بالتحديد. جاء ذلك واضحا في الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأمريكي عن حالة الاتحاد 28 يناير 2003 عندما قال "تخيلوا مختطفي الطائرات التسعة عشر أولئك ومعهم أسلحة أخرى وخطط أخرى هذه المرة وقد سلحهم صدام حسين لن يحتاج الأمر إلا لتسلل قارورة واحدة، علبة معدنية واحدة قفص واحد إلى داخل هذا البلد ليجلب علينا يوم دعر لم نعرف مثيلا له"، وكان الرئيس الأمريكي قد أعلن قبل ذلك أمام مجلس الشيوخ "إننا نعرف أن العراق وشبكة القاعدة الإرهابية يتشاركان في عدو واحد الولايات المتحدة الأمريكية ونحن نعرف أن العراق والقاعدة تربطهما صلات على مستوى عال ترجع إلى عقد مضى".[76]
كما روجت الإدارة الأمريكية بأن محمد عطا الذي يعتقد بأنه الرأس المدبر لهجمات الحادي عشر من سبتمبر وقائد طائرة البوينغ التي ارتطمت بالبرج الشمالي من مركز التجارة العالمي اجتمع مع أحمد خليل العاني، القنصل السابق في السفارة العراقية في براغ في يونيو 2000، وقد طرد العاني بعد ذلك من الجمهورية التشيكية بتهمة التجسس، وبالتالي يمكن اعتبار ذلك دليلا على علاقة العراق بالقاعدة.[77]
إن من يقف وراء هذه الحجة قد نسى بأن النظام العراقي بقيادة صدام وتنظيم القاعدة بزعامة أسامة ابن لادن يمكن أن يتفقا على عدو مشترك ولكنهما من الصعب أن يتعاونا معا، حيث أن الحزب الحاكم في العراق حزب بعثي دو توجه علماني، مناهض لتنظيم القاعدة الذي يعترف بمعاداته للأنظمة العلمانية.[78]
كما أن حجة محمد عطا لم تصمد طويلا حيث أكد الرئيس فكلاف هافيل في تقرير سلمه إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش بأنه لم يحدث أي اتصال بين محمد عطا وبين عملاء المخابرات العراقية والأكثر من ذلك فمروره في براغ أمر مشكوك فيه كليا.[79]
لذا اضطرت الإدارة الأمريكية إلى التراجع عن هذه الحجة وقال الرئيس الأمريكي في سبتمبر 2003 بأن الولايات المتحدة ليست لديها براهين على مشاركة صدام في هجمات 11 سبتمبر.
3- انتهاك النظام العراقي لحقوق الإنسان :
الحجة الثالثة التي روجتها واشنطن لتبرير حربها على العراق هي انتهاك النظام العراقي لحقوق الإنسان وبأنه نظام دكتاتوري يمثل تهديدا لجيرانه وكارثة لشعبه.[80]
هذه الحجة تعتبر من الحجج التي يسهل طرحها ويصعب تحديدها أو الحكم عليها، ولنفترض بأن النظام العراقي السابق كان بالفعل نظاما دكتاتوريا وقام بانتهاكات لحقوق الإنسان هل يمكن اعتبار الحرب هي طوق النجاة لحقوق الإنسان ؟ أليس الحرب هي التهديد الأكبر لهذه الحقوق، وأن معظم جرائم إبادة الجنس البشري والتطهير العرقي في القرن العشرين قد جرت أثناء الحروب أو بعدها مباشرة وذلك بسبب الفوضى والخراب وتفجر الأحقاد والسرية المصاحبة للحرب.[81]
ثم ماذا عن الأنظمة الأخرى الحليفة لواشنطن لما قررت الولايات المتحدة معاقبة العراق بالتحديد على انتهاكاته لحقوق الإنسان بينما تدعم إسرائيل في الوقت الذي تنتهك فيه إسرائيل قرارات الأمم المتحدة وحقوق الإنسان الفلسطيني.[82]
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كيف تريد الولايات المتحدة من العالم أن يصدق أنها ذهبت للعراق لتحرير الشعب العراقي من حاكم مستبد حسبما تدعى، بينما تسارع في تطبيع علاقاتها مع ليبيا بمجرد أن وافق الرئيس الليبي معمر القذافي على فتح المنشآت العسكرية الليبية لفرق التفتيش الدولية ألم تكن الولايات المتحدة تصف النظام الليبي بأنه نظام مستبد ولا يحترم حقوق الإنسان ويدعم الإرهاب الدولي هل تغير كل شيء وأصبح الرئيس الليبي بمجرد استجابته للضغوط الأمريكية رجلا ديمقراطيا يحترم حقوق الإنسان وليس له علاقة بالإرهاب.
4- الحرب على العراق انتهاك للشرعية الدولية :
انتهينا إلى أن غزو العراق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا كان حرب عدوانية لتحقيق مصالح وأهداف إستراتيجية في منطقة الخليج، وسوف نبرز هنا تلك القواعد التي انتهكتها الدولتان الغازيتان أمريكا وبريطانيا عندما غزت قواتهما دولة عضو في الأمم المتحدة منتهكة سيادتها الإقليمية، فقد تمثلت هذه الانتهاكات للشرعية الدولية في الآتي[83] :
أولا : انتهكت الولايات المتحدة وبريطانيا الفقرتان الثالثة والرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة اللتان أوجبتا على جميع أعضاء الهيئة الدولية بفض منازعاتهم بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر، وأن يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن أن يهددوا بالقوة أو يستخدمونها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة أو على وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة.
ثانيا : انتهكت الولايات المتحدة وبريطانيا المادتان الأولى والثانية من ميثاق الأمم المتحدة اللتين تنصان على عدم استخدام القوة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
ثالثا : انتهكت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا المادة 24 وأحكام الفصلين السادس والسابع من ميثاق الأمم المتحدة في تخويل مجلس الأمن وحدة حق التدخل في أي نزاع يخشى منه قيام الحرب.
رابعا : انتهكت قوات الغزو الأمريكي والبريطاني المادة 25 من اتفاقيات لاهاي سنة 1908 بشأن العمليات الحربية التي توجب تحديد ساحة القتال ضمانا لحسن سير العمليات العسكرية، مما يعني تحييد المناطق السكنية والمنشآت المدنية عند بداية الحرب إلا أن قوات الغزو الأمريكي والبريطاني استباحت كل الأراضي العراقية وجعلتها ساحة قتال فلم تفرق بين منشآت مدنية أو عسكرية، فطال القصف الوحشي المستشفيات والمدارس ودور العبادة وأماكن التسوق وجميع مرافق الدولة والبنية التحتية لها فحولت جميع مدن العراق إلى خراب ودمرا وهي تدعوا الآن المجتمع الدولي لإعادة إعمار العراق.[84]
خامسا : انتهكت قوات الغزو الأمريكية والبريطانية المادة 22 من اتفاقية لاهاي لسنة 1907 بشأن حظر استخدام الوسائل الهمجية في الحرب إذا كانت تلك المادة تتحدث عن أسلحة فتاكة صنعت عام 1908 وهي الرصاص المتفجر والإشعاعي فإن قوات الغزو الأمريكي والبريطاني على العراق استعملت أحدث ما توصل إليه العلم والتكنولوجيا في مجال صنع الأسلحة التدميرية والتجريبية في القرن الحادي والعشرين.
سادسا : انتهكت قوات الغزو الأمريكية اتفاقية لاهاي سنة 1908 بشأن التمييز بين المحاربين وغير المحاربين فقد طال القصف الوحش جميع أفراد الشعب العراقي من أطفال ونساء وشيوخ في مشاهد نقلتها جميع الفضائيات العربية والعالمية ولا تحتاج إلى دليل أكثر من ذلك.
سابعا : انتهكت قوات الغزو الأمريكية والبريطانية المادة 114 من اتفاقية جنيف الثانية في 12 أغسطس سنة 1949 المتعلقة بأسرى الحرب في وجوب معاملة أعضاء حركة للمقاومة العراقية، معاملة الأسرى وليس كإرهابيين كما تفعل قوات التحالف الأمريكي والبريطاني. وتسعى لحشد الجهود الدولية من خلال الأمم المتحدة لهذا الغرض وقد كانت أحداث سجن أبو غريب للمعتقلين العراقيين والتي تفجرت فيما بعد من أقوى الأدلة على هذه الانتهاكات.
ثامنا : انتهكت قوات الغزو الأمريكي والبريطاني المادة 117 من اتفاقية جنيف لسنة 1941 بشأن معاملة أسرى الحرب.[85]
تاسعا : انتهكت قوات الغزو الأمريكية والبريطانية المواد 12 حتى 59 من اتفاقيات لاهاي سنة 1908 بشأن تحديد الأطر القانونية للسلطة العسكرية على أراضي الدولة المحتلة.[86]
والتي تقتضي بأن الاحتلال لا يؤدي إلى تعديل الهيكل السياسي للدولة الواقعة تحت الاحتلال ويظل رئيس الدولة الشرعي محتفظا بممارسة اختصاصاته.
عاشرا : انتهكت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا مبادئ الأمم المتحدة ومختلف القرارات الصادرة عن المنظمة الدولية بشان نظام الأمن الجماعي حيث جاء الغزو كعمل انفرادي متخطيا لمجلس الأمن المختص أصلا بالحفاظ على السلم والأمن الدوليين الأمر الذي دفع بالأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان إلى سرعة تقديم تقرير إلى الجمعية العامة تحت رقم 323 في 22 سبتمبر 2003 يتساءل فيه عن شرعية استخدام القوة في العلاقات الدولية بمناسبة غزو العراق بدون تفويض من مجلس الأمن كما طرح سؤال آخر عن شرعية الحروب الوقائية لمنع اعتداء وشيك وهي النظرية التي أطلقها الرئيس الأمريكي كذريعة لغزو العراق.[87]
ومما لاشك فيه أن غزو العراق أصبح يشكل كابوسا للإدارة الأمريكية ولم تعد تملك سوى الاستمرار في هذا الكابوس إلى أن تستيقظ، وقد وجدت نفسها خارج البيت الأبيض بعد أن تكون قد سجلت نفسها على أكثر صفحات التاريخ دموية وعطشا للنفط.
*****
يتبع...
وليد اسكاف . المرجع السابق